والطريق شاقاً. فهذه الكتاتيب وهذه المدارس الأهلية كالدنيا: فيها ليل ونهار. فما لنا نذكر نهارها وننسى ليلها؟ ما لنا نُبصِر مزاياها ونُغمِض عن عيوبها؟ إنها تهتمّ بالدين، والدين هو الأساس لكل بناء خير، ولكنهم كانوا يلقّنون الدين بطريقة تنفّرنا من الدين؛ يسقوننا الشراب النافع، ولكن لا يرغّبوننا فيه ويجمّلونه في أعيننا ويضعونه في الآنية النظيفة على المائدة التي فيها الورد والفلّ، بل يضجعوننا كما تُضجَع النعجة للذبح ويمسكون بأيدينا حتى لا نتحرك، ويفتحون أفواهنا بذنَب الملعقة ويصبّونه فيها صباً يكاد يخنقنا! وكان من السهل عليهم (لو أنهم أرادوا) أن يفتحوا شهيتنا إليه ويثيروا رغبتنا فيه فنمدّ إليه أيدينا راضين ونشربه فرحين، ولكنها كانت هي الطريقة المتّبَعة على ما فيها من عوج.
وقد بقي من هذه الطريقة بقيّة إلى اليوم قاصرة -مع الأسف- على بعض دروس الدين.
* * *
هذه المدارس لم تكن فيها عطلة صيفية؛ كنا نذهب إليها كل يوم في الصيف وفي الشتاء، في أيام الفطر وأيام الصيام، لا نعطل إلاّ أيام الجمعة وسبعة أيام في العام هي أيام العيد.
وما كانت الطرق مزفَّتة (ولا تقولوا مسفلَتة) ولا نظيفة، بل كانت أرضها في الشتاء إذا نزل المطر وحلاً نخوض فيه إلى قريب الركب، يملأ رشاشه ثيابَنا من الظَّهر إلى قرب الخصر، فإذا جاء الصيف جفّ فصار تراباً يملأ أكتافنا ويستقرّ في صدورنا. وكانت السيارات في دمشق كلها تُعَدّ على أصابع اليدين، بل على أصابع