يأخذون ويعطون، فيكبرون وهم لا يزالون في عهد الصغر.
وأهل الشام أبرع الناس في التجارة وأحرصهم عليها، إلاّ الأقل الأقل منهم. وكنت أنا وإخوتي من هذا الأقل، إذ لم يكن أبي تاجراً ولا جدّي، وإنما كان صاحب علم وجليس كتاب. وبراعة أهل الشام في التجارة فيها تفسير هذه الظاهرة التي كُتب عنها كثير من الكتب، هي أن اليهود قبل أن يسرقوا فلسطين وقبل أن يظاهرهم ويعينهم على سرقتها قوم آخرون، كانوا في كل بلد دخلوه أصحاب المال فيه وكانوا كبار تجّاره والقابضين على أزمّة اقتصاده، إلاّ الشام، فما جاوز اليهودُ عندنا أن يكونوا أصحاب ربابيكا (كما يقول العامة في مصر) عملهم الأوحد هو أن يحملوا أكياساً طويلة ويدوروا على البيوت ينادون: "أَواعي (١) عُتُق للبيع، أشياء عتيقة للبيع، أشياء عتيقة للبيع". كان هذا عملهم، وكان لهم عمل آخر اختصّوا به هو المتاجرة بنسائهم، لأن اليهود في البشر كالخنازير في الحيوان، ليس عندهم غيرة على إناثهم.
ولم ينفرد أهل الشام في البراعة في التجارة، بل كنت أرى وأنا صغير جماعة من أهل نجد يمشون إلى العراق وإلى الشام، وقد استقرّ فريق منهم فيها؛ رأيتهم في الزُّبَير لمّا ذهبت ماشياً إليها مع طائفة من تلاميذي في البصرة، وقد سبق الحديث عن هذا، ورأيتهم في البصرة وكانوا من وجوه أهلها، وقد دعانا مرة رجل كريم بيته مفتوح للضيوف هو من آل أبا الخيل (وقد نسيت اسمه،
(١) هي الملابس باللغة الدّارجة في الشام. ولعل أصلها من مادة «وعى»، فمن معانيها ما يحتمل تنزيلَه على اللباس (مجاهد).