لقد شهدت انتخابات كثيرة، وخفّ عقلي مرة فدخلت (سنة ١٩٤٧) واحداً منها، وسيأتي حديثها. فما رأيت فيها كلها انتخابات صحيحة إلا مرتين.
ولقد وصلت في الحلقة السابقة من ذكرياتي إلى «الجمعية التأسيسية»، أي المجلس النيابي الذي اجتمع سنة ١٩٢٨ لوضع دستور البلاد. وقد أقرّت الدستورَ الذي وضع مشروعَه فوزي الغزّي، الأستاذ في كلية الحقوق، والذي شغل الناسَ موتُه قتيلاً أكثر ممّا شغلتهم حياته عالماً. لقد كانت حبّة الأستركنين التي أودت به المجالَ الأول لأحاديث الناس في مجالسهم ومقالاتهم في صحفهم ومجلاّتهم زمناً طويلاً. وفي قصّة موته عِبرة أذكّر بها، وأرجو ألاّ أسيء إلى أحد بإعادة ذكرها. لقد كانت له زوجة ذات نسب وذات جمال قليل المثال، وكان له ابن أخ شابّ مكتمل الشباب، أبقاه قريباً منها ثم اشتغل بعمله الوطني عنها، وهي شابّة في عزّ الشباب، فأدخل بذلك الشيطان بينهما، فأغراهما بإزاحته من طريقهما لتتمّ لهما متعة حبهما، فذهب هو إلى لقاء ربه، وذهبا إلى السجن فقضيا فيه أكثر عمرهما.
أقرّت الجمعية التأسيسية الدستور وجعلته كدساتير الدول الحرّة المستقلّة، اقتبسته من أحدثها وأتَمّها، فاشتمل على كل ما يحقّق السيادة الكاملة لنا على أرضنا واستقلالنا التامّ في إدارة شؤوننا، ولكنه لم يراعِ أصول ديننا ومنهج ربنا في التزام شريعته التي لا يكون المسلم مسلماً إلا باتّباعها، وفي وحدة الأمة المسلمة وربطها برابطة الإيمان التي صرّح بها القرآن، لا بروابط اللسان والأوطان والبلدان وكل ما أوحى به الشيطان إلى أعدائنا