للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عذابه وأرجو ثوابه (١). أعود إلى ذكر أمي، وما نسيتُها ولا غاب عني يومها. إني أرى تفاصيل الفاجعة كأنها «فِلم» يمرّ أمامي، بالعرض البطيء الذي يوضّح دقائق حركات الممثّلين وملامح وجهوههم، ولكنه لا يكشف خلجات نفوسهم لأن هذا شيء ما وصلت إليه صناعة الأفلام.

لقد حدّثتكم عن موت أبي وكيف هبطنا فجأة من شارع في سفح الجبل إلى حارة من أفقر حارات البلد، ومن حياة رخاء وسَعة في الدار الكبيرة إلى دُويرة لا تكاد تصلح لسُكْنى الناس، وكيف كنا ننام على الأرض وكيف كان السقف يَكِفُ (٢) من فوقنا في ليالي الشتاء. حملت أمي العبء كله، كانت أماً وكانت أباً، لم تجد ما تُدفئ به الدار فأدفأتها بعاطفتها، بحنانها. ألا يذكر كلٌّ منا دفء حنان الأم حين كانت تضمّه إليها في الليالي الباردة؟ ما كانت تملك إلا هذه العاطفة وهذا الحنان، ما ترك أبي مالاً في صندوق ولا وديعة في مصرف، وما كنا نعرف المصارف وأسلوب معاملتها. وكنت أنا أكبر إخوتي لم أكمل السابعة عشرة، وكنت لا أزال في الثانوية لا مورد لي ولا مهنة في يدي، وكان أخي ناجي لم يتمّ الحادية عشرة، وعبد الغني ابن ستّ، وسعيد ابن ثلاثة أشهر.


(١) من شاء من القراء فليقفز من هنا إلى حديث الشيخ الباكي المُبكي عن فاجعته في ابنته في الحلقة ١٦٥ من هذه الذكريات، وعنوانها: «إن الشجى يبعث الشجى» (مجاهد).
(٢) وَكَفَ يَكِفُ، أي نزل منه الماء، على وزن وَعَدَ يَعِد.

<<  <  ج: ص:  >  >>