وقد عرفتم أن أبي كان من صدور الفقهاء ومن الطبقة الأولى من المربّين والمعلّمين، ولكنه كان كأكثر المدرّسين والدعاة: ربما شغلته مدرسته ومسجده عن الإشراف الدائم على أولاده. كان يترك ذلك لأمي، فكانت تؤدّي الحقّ الذي تركه لها وائتمنها عليه أداءً كاملاً. وكان بيتنا -كأكثر بيوت الشام في تِلْكُم الأيام- لا يخلو من خصومات ومنازعات، وكان فيه حزبان: حزب جدّتي وعمّتي التي لم تتزوّج، والتي كان لها في حياتي أعمق الأثر وفي قلبي أكبر الحبّ، وكانت أكبر من أبي سناً، تحمل شهادة المدرسة الرشدية (أي المتوسطة) تاريخها سنة ١٣٠٠هـ، وكانت مع أول فوج من المتخرجات في مدارس البنات التي أنشأتها الحكومة العثمانية في دمشق بمسعى من مربّي الجيل الماضي الشيخ طاهر الجزائري، وكانت هذه الشهادة عندي ثم ضاعت مني. وحزب أمي وأولادها، وكنت أنا -بالطبع- في حزب أمي. وكان الحزبان يتنازعان على كل شيء. وما كان شيء بحمد الله ناقصاً، وكان الخير كثيراً، ولكن أمي تدّخر منه لأولادها وهما تدّخران للضيوف، فيقع النزاع. وكنا نخوض المعارك فنظفر حيناً ونُغلَب حيناً، ولكنا في الحالين لا ننام حتى يأكل الفلق (١) والخيزران من أقدامنا!
وقد نالني من تربية أبي ومن توجيهه الحظّ الأكبر، وما مات حتى قاربت النضوج. وكنت في فكري وثقافتي أكبر من سني؛ ذلك لأني لم أعاشر الصغار ولم أعرف ما يعرفه الناس