من حياة الطفولة. لقد دلّلوني أولاً لأن أبي كان الباقي لجدّي من عشرة من الولد ماتوا جميعاً، ولأني كنت بِكر أبي، ففرح بي جدي وأولاني -على قسوته وشدته- من اللين والعطف ما لم ينَلْ مثلَه أحدٌ. ثم مات جدّي عند إعلان الحرب الأولى، وكنت في بداية المدرسة، فانتهى عهد الدلال وعشت حياة أقرب إلى الجِدّ الخالص؛ لم أعرف طريق اللهو ولا اتخذت لي (كما قلت من قبل) صديقاً من غير رفاق المدرسة وداخل أسوار المدرسة وفي وقت المدرسة، فكان مَن ألقاهم وأستمع منهم وأقتبس من سِيَرهم هم أبي وأصدقاء أبي وتلاميذ أبي، فكان صحبي كلهم من الكبار، فألِفت مجالسهم وأحاديثهم، أستمع إليها ولا أشارك فيها، ثم أقضي بقية وقتي (كما عرفتم) في القراءة.
كنت أنا الكبير من إخوتي، لذلك كان عليّ بعد وفاة أبي أن أشارك أمي في حمل هذا العبء، فحملت القليل القليل منه وحملَت هي الأكثر، لكنها تركَت لي -رحمها الله- أمرَ دراسة إخوتي وتوجيههم. وما كنت أخرج في الجملة عن رأيها، ولا كانت تغيّر في التفاصيل من رأيي.
أما ناجي فاشتركَت في تكوينه تربية أبيه وآثار مدرسته وما عملتُه أنا، وأمّا عبد الغني فتوجيهي أنا وأثر المدرسة أقوى فيه من أثر أبي رحمه الله، وأما سعيد فكنت أنا العامل الوحيد في تربيته الدينية والسلوكية والثقافية، صنعت له (والفضل لله لا لي) أكثر ممّا صنع لي أبي رحمه الله. كان أبي مشغولاً أحياناً عني وكنت أنا دائماً معه، وسيّرني أبي في طريق العلم فقط وسيّرتُه في طريق