العلم وطريق الأدب معاً، حتى صار في يوم من الأيام كأنه صورة مني ونسخة عني، حتى الشواهد التي يستشهد بها من الأشعار ومن الأخبار والنكت التي يرويها، ثم إن اللهجة التي يُلقي بها لهجتي أنا كما كنت أدرّب تلاميذي عليها. وقد مرضت مرة، ولم يكن هذا الشريط المسجّل، فنزل إلى الإذاعة فقرأ حديثي عني، فما شكّ أكثر السامعين أنه أنا، وإن أنكروا منه بعض الرقّة في الصوت وبعض الرخاوة في الإلقاء. ولما عرض له تعثّر في النطق جرّأ عليه رفقاءَه في المدرسة استخرت الله وأخرجته منها، وخفت أن ينقطع عن المطالعة ثم يبتعد عن العلم، فهداني الله فاشتريت له قصة عنترة في ثماني مجلدات. وهي موضوعة وأشعارها مصنوعة، ولكن فيه أخبار الجاهلية كلها وفيها أسماء أبطالها وأنباء رجالها، وكان ذكياً من أذكى الناس فحفظ أخبارها وأشعارها. ثم جئته بفتوح الشام المنسوب إلى الواقدي، ثم خلّيت بينه وبين المكتبة فقرأ وقرأ، لا يطالَب بامتحان ولا يُكلَّف اتباع منهاج، ثم أعدّ نفسه لامتحان الكفاية فدخله ولحق رفاق المدرسة فما ضاع عليه شيء.
* * *
وكان عليّ أن أتكسّب قبل الأوان، فجربت أن أعمل محاسباً، وأن أكون تاجراً، وأن أكون معلماً، وأن أعمل صحفياً. كنت كالطفل الذي درج ليتعلم المشي، فأنا أقوم وأقع وأخطو وأتراجع، وأقول شكراً لله (لا فخراً بنفسي ولا مناً على أحد) أني لم أكلّف إخوتي مشاركتي في شيء من هذا (ولو فعلت لما لامني أحد) بل تركتُهم لدراستهم، فوفّق الله فصار ناجي مدرّساً وصار