وتزوجَت أمي وعمرها سبع عشرة سنة، فانتقلَت من دار ما فيها إلا الجِدّ والحياة الخالية من اللهو ومن أسباب المتعة، وإن لم تخلُ من ضرورات الحياة ولوازم العيش، إلى دار مثلها ما فيها إلا الجدّ والبعد عن اللهو وعن المتعة. من دار تحكمها امرأة صارمة أمرها قانون يُطاع أو تحلّ النقمة بمن يعصيه، إلى دار يحكمها رجل (هو جَدّي)، شيخ بعمامة ولكنه عسكري الطبع والمهنة، فقد كان إمامَ طابور وله رتبة عسكرية، صارم أمره قانون ومخالفة أمره انتحار. وكان أبي لطيف المعشر رقيق الطبع ولكنْ لا حكم له في بيت أبيه، ثم إنه كان معلّماً، وكان أسلوب التعليم يقوم على الشدّة، وكان الترهيب فيه والعقاب مقدَّماً على الترغيب والثواب.
فما سعدَت السعادة التي تحلم بها كل بنت في بيت أبيها الذي عاشت فيه يتيمة الأبوين، كانت أختها الكبرى هي أمها بعد أمها، أرضعَتها من ثديها وربّتها مع أخيها وابنها، ولكنها كانت شديدة بطبعها تكره اللين والميوعة ولا تُظهِر العاطفة، ولعلها (والله أعلم) لا تخفيها أيضاً لأنها لا تجدها. ولا أحب أن أظلمها، وأستغفر الله لي ممّا قلت ولها، فلقد أفضلت على أمي وَرَعَتْها، رحمها الله. وما عرفَت سعادة الحياة العاطفية في بيت زوجها، فصبّت عاطفتها كلها وفَيض قلبها كله في حبها لأولادها. ما نالت كل ما اشتهت فحاولت أن تعوّض ذلك بإنالة أولادها كل ما يشتهون من الحلال، فالحرام لم يكن له مكان في بيت زوجها كما لم يكن له مكان في بيت أبيها.