بقيَت بقاء فاس مثلاً ودهلي (١). يا ليتهم تركوها تحدّث حديثها وتبعث ماضيها وتصف أمجادها، وأقاموا إلى جنبها مدينة مثل فاس الجديدة ونيودلهي. لم يبقَ من دمشق إلاّ مثل ما بقي من بغداد: ملامح ضئيلة وبقايا قليلة، أولها الأموي وثانيها السور، ولا يزال أكثر السور باقياً سليماً.
أما الأموي الذي تزوره اليوم فليس الذي بناه الوليد؛ إنه احترق مرّات (فراجع كتابي «الجامع الأموي» تعرف خبرها)، وهذا البناء تمّ سنة ١٣١١هـ على أثر الحريق الأخير، بناه «معلّمون» من أهل صنعة البناء في دمشق ما فيهم مَن درس الهندسة وحمل شهادتها، لأنهم من العباقرة الذين اقتبس علم الهندسة من عبقرياتهم ومن دراسة آثارهم وآثار أمثالهم. من النتائج المنظَّمة لهذه الدراسات وممّا أضيف إليها وزيد عليها نشأ هذا العلم. وإلا فخبّروني: في أية جامعة تخرّج مَن بنى الأهرام، ومن أقام حدائق بابل المعلّقة، ومن رفع هذه الصخور الهائلة فوضعها فوق هذه الأعمدة العالية في بعلبَكّ وتَدْمُر؟ ومن صنع نقوش الحمراء، ومن جعل الرخام الجامد ينطق بأبرع لسان، يتلو بلسان الحال آيات الجمال في تاج محل؟
(١) كثيراً ما نبّه علي الطنطاوي إلى أن هذا هو اسمها الصحيح، وليس «دلهي» الذي سماها به الإنكليز (لعِوَج لسانهم كما كان يقول). قلت: وضبطها صاحب القاموس بألف مقصورة في آخرها (دِهْلَى). وسيأتي في الحلقة ١٤٦ من هذه الذكريات حديث طويل عنها عنوانه «دهلي، الفردوس الإسلامي المفقود» (مجاهد).