للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دمشق وفي أطرافها في النهار، وكان انقسام وخصام، والجهل كان أعمّ والأمّية كانت أكبر، والأمراض كثيرة والأطباء قلائل. ولكن كان -مقابل ذلك- فضائل ومزايا: تمسّك بالدين، وإن كان يخالطه عند العوامّ بدع وجهالات وأوهام، ولم يكن سفور ولا اختلاط، ولا كانت الملاهي، ولا كان مَن يجهر بارتكاب المعاصي أو يعلن ترك الواجبات. وكانت الغيرة على الأعراض والبعد عن الفسوق، وكان التعاون بين الناس حتى كان الحيّ وسكانه داراً واحدة وأهلها كالأسرة الواحدة.

فإذا بلغت العقيبة فامشِ إلى آخرها، حتى تبلغ تلك الحارات الضيقة والبيوت الصغيرة الفقيرة، فادخلها. لا يَرُعْك ضيق مسالكها ولا فقر منازلها، فلقد كانت ها هنا منازل أهلي، هنا كان مسقط رأسي. ليس الوقوف والبكاء على الأطلال وحدها، فلقد وقف الشريف الرضيّ على منازل حبّه وهو في بغداد يوم كانت سُرّة الأرض وأعظم مدن الدنيا. لم يكن راكباً نِضواً (١) كما قال ولا مصاحباً رَكباً، إنه لم يصف عن عيان كالشاعر الجاهلي، ولكن ماذا يضرّ؟ ألا تمرّ على العمارة الكبيرة التي كنت تسكنها فتذكر أيامك فيها وتحنّ إليها، وربما ذرفت الدموع على مَن كان معك فيها فواراه عنك ثراها؟ العاطفة صادقة ولو اختلفَت الظروف، فماذا يضرّ رخص الإطار إن كانت اللوحة ثمينة؟

إن الإنسان مفطور على الحنين إلى ماضيه. مَن ينسى الأمس وهو أبو اليوم، كما أن اليوم هو أبو الغد؟ لذلك تحرص


(١) النّضو (بكسر النون) الدابّة التي أجهدها السفر (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>