للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمم على آثارها. الآثار هي بقيّة الماضي، الماضي زمان ومكان وأحداث وناس، وقد ذهب الناس فلا يرجعون، وانتهت الأحداث فلا تُستأنَف، والزمان الذي تصرّم لا يعود، فلم يبقَ إلا المكان وما فيه من أشياء. فإن اعتنينا بالآثار فنحن لا نعبدها ولا نقدّسها؛ ضلّ من يقدّس تراباً ويعبد حجراً، ولكنْ نذكر فيها ماضينا، أي ننظر إلى أنفسنا في أمسنا.

هنا وُلدتُ وأمضيت فجر حياتي، وإلى هنا رجعت لمّا غابت شمس اليوم الأول من هذه الحياة بموت أبي، ثم رجعت إلى هنا لمّا غربت شمس اليوم الثاني بموت أمي.

لمّا خرج صبري القبّاني من غرفة العمليات فقال لي (بنظرات من عينيه الغارقتين بالدموع وبحركات اليأس من يديه) إنها ماتت وقفت كالذي ضُرب على رأسه ففقد الوعي وهو ينظر، عيناي مفتوحتان ولكني لا أرى شيئاً. وقفت وأحسست كأنْ قد وقف معي الزمان. لامارتين في قصيدة «البحيرة» استوقف الزمانَ في ساعة الوصال وحثّه على الإسراع في وقت الكرب، ولكن زماني وقف بي وأنا مكتئب مكروب، لا أستطيع أن أعود إلى الأمس فأتصور أمي وهي بيننا، وهي عماد بيتنا وهي تعيش معنا، ولا أستطيع أن أتصور الغد، كيف يكون غدي وقد تركتنا أمي؟

لقد بكى صبري القباني على أمي لأنه كان يوماً مثل أخي، ولعله بكى فيها أمه. لقد كان يعرف أمي، كانت كلما غبت سألَته عني وكانت تعطف عليه كأنه ابنها، وكان -رحمه الله- قد حُرم جوار أمه أيام صباه.

<<  <  ج: ص:  >  >>