تعطّل فكري فلم أعُد أفكّر. كانت الجرعة أكبر من أن أسيغها، وقفَت في حلقي فلا أنا استطعت أن أبتلعها ولا أنا أملك أن ألفظها. لم أقُل شيئاً، لم أبكِ، لم أصرخ. صرت كأني قد جمدت، فتولّى صبري الإمساك بي وإخراجي، وانقدتُ إليه أمشي معه كأني أمشي في نومي. وجاء الدكتور نظمي القباني أستاذ الجراحة في كلية الطب (وهو ابن محاسب المعارف الأستاذ مصطفى القباني، وليس من أسرة الدكتور صبري القباني)، وأنا أذكر الآن أنه قال كلاماً طويلاً عرفت أنه يواسيني به ويعزّيني، ويقول إنه بذل الجهد لكن إرادة الله أقوى من طبّه، ولكني لم أفهم ممّا قال شيئاً.
ولم أعلم إلى الآن (صدّقوني) كيف غُسّلت وكُفّنت؛ لقد تولى الأمرَ كله إخوة بررة، منهم من ذهب إلى رحمة ربه كالدكتور صبري والشيخ عبد القادر العاني وأنور العطار، ومنهم من بقي كابنَي خالتي طه وثابت الخطيب والشيخ ياسين عرفة وطائفة من الشبان الذين كانوا يلازمونني: رشاد جيوشي وأنور العش، ومحمود الرفاعي وسعيد الجزائري رحمهما الله.
وما تنبّهت حتى وقفنا للصلاة عليها في جامع التوبة. ولي في هذا المسجد ذكريات خالطَت ثواني حياتي الأولى، فيه وفي هذه المدرسة القائمة أمامه قِطَع من عمري من عهد طفولتي. هنا رحمني الله فسال دمعي.
إن الدموع رحمة، فلا تخجلوا يا أيها المحزونون أن تبكوا، فإن حرقة القلب لا تطفئها أنهار دمشق السبعة ولكن يطفئها، أعني