للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنه يخفّف من حرّها، سَفحُ الدموع. ولو كان البكاء يُنقص من الرجولة ما بكى سيد الرجال محمد، صلى الله على محمد.

بكيت بلا صوت. كانت دموعي تتساقط وأنا صامت. بكيت أمي وإن لم أستوعب تماماً حقيقة مصابي بها ولم أدرك مداه، بكيت أبي، بكيت من ذهب من أهلي ومن صحبي، بكيت آمالي وأحلامي، بكيت مَواضي أيامي، بكيت أسرتي الأولى التي كانت كلها هنا فلم يبقَ منها إلا أنا.

أنا بعد أربع سنين أبلغ الثمانين (١)، وقد تُوُفّي أبي وهو في السادسة والأربعين وأمي في الثالثة والأربعين، ولكني كلما ذكرتهما أحسب أني صَغُرت حتى عدت طفلاً رضيعاً كان يأوي إلى صدر أمه، يطلب فيه الحليب غذاء جسده والعطف طعام روحه، وكذلك يحسّ كل ولد مع أمه. واستُشهدَت بنتي وهي في السابعة والثلاثين، ولكني كلما ذكرتُها أشعر أنها صَغُرت حتى عادت الطفلة التي ترتمي على صدري وتقعد في حجري، وكذلك يشعر كل والد مع ولده، مهما كبر الولد فهو في عين أبيه طفل.

ولكن هذه أسرار قلبي فلماذا أعلنها للناس؟ هل أجعل مخدع حبي الأطهر معرضَ صور يتجول خلاله النقاد والذين يحبون أن يتسلّوا؟ لقد استحضرت في ذهني من ذكريات أمي وذكريات بنتي ما يملأ صفحات من الجريدة، حفرت بأظافري في أنقاض الماضي في ذاكرتي حتى جمعتها. لقد استخرجت خيوط


(١) كُتب الفصل سنة ١٤٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>