للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثوب من بين ذرّات التراب خيطاً بعد خيط ثم أعدت نَسْجَه لأدفئ به عظامي في شيخوختي، فهل أنزله في «سوق الحَراج» لأبيعه بالمزاد؟ لا؛ فلتبقَ لي وحدي فما لأحد من القرّاء نفع فيها، وأنا إنما أحيا بها.

* * *

وأما أنت يا أيها المحسن المجهول، الذي رضي أن يزور دمشق عني حين لم أقدر أن أزورها بنفسي، لم يبقَ لي عندك إلا حاجة واحدة؛ فلا تنصرف عني وتدَعني وحدي بل أكمل معروفك، فصلِّ الفجر في جامع التوبة، ثم توجّه شمالاً حتى تجد أمام «البحرة الدفّاقة» زقاقاً ضيّقاً جداً، حارة تُسمّى «المعمشة»، فادخلها فسترى عن يمينك نهراً، أعني جدولاً عميقاً، على جانبه من الورد والزهر وبارع النبات ما تزدان بأقلّ منه حدائق القصور. أتدري ممَّ جاء؟ لأنه يشرب ماءً قذراً. إن هذا الجدول نصفه من ماء النهر ونصفه من ماء المجاري!

عفوك فهذه هي الحقيقة، ومن الحقائق ما يسوء. وعلى كتفه ساقية عالية ماؤها إن قيس بمائه عذب زلال، وإن لم يكن زلالاً ولا عذباً. وإن رجعت إلى مجلة الرسالة (١٩٣٥) قرأت مقالة لي عن هذه الساقية (١)، فاجعلها على يمينك، وامشِ في مدينة الأموات، وارعَ حرمة القبور فستدخل أجسادُنا مثلَها، ودَعْ هذه البرحة الواسعة في وسطها وهذه الشجرة الضخمة الممتدّة الفروع


(١) «ساقية في دمشق»، وهي في كتاب «دمشق، صُوَر من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>