كان الجراد يغزو البلاد فلا يدع في السهول ولا في البساتين شيئاً أخضر إلا أتى عليه. ولقد حدّثتكم عن الجراد الذي جاءنا سنة ١٩١٤ قُبيل الحرب الأولى، وكنت في أول طريق الدراسة صغيراً، ولكني أذكر على صغري أن سماء المدرسة ذات الصحن الواسع قد غطتها سحابة منه حجبت عنها نور الشمس، حقيقة لا مجازاً. وكان يتساقط منها علينا مثل المطر، وما هو بالمطر وإنما هو جراد. وكنا بعد ذلك نقرأ في البرقيات التي تنشرها الجرائد أخبار تحرك أسراب الجراد كل سنة أو سنوات. وقد ازدادت الآن وسائل مكافحته وعُرفت مبيدات ترشها الطائرات، لكنا لم نكن نعرف شيئاً منها لمّا جاءنا جراد سنة ١٩٣١، فكنا نحاربه بأيدينا كما يحارب أهل فلسطين المحتلين المجرمين بالحجارة التي لا يملكون غيرها، يقابلون بها أخطر وأمكر الأسلحة التي تفتّقَت عنها أدمغة أبالسة البشر.
وخرج الشباب والطلاّب وجماهير المتطوعين لِجَمْعِه ليلاً على أضواء المشاعل، وكنت -لموضعي من لجنة الطلاّب- على رأس مجموعة كبيرة فيها مئات من طلاّب التجهيز (أي المدرسة الثانوية: مكتب عنبر)، خرجت بها إلى قرية الريحان إلى جانب دوما وجوار مستشفى ابن سينا، أي «دار المجانين» في القُصَير. ولولا لطف الله لتركتني هذه الليلة بين نزلائه.
كيف لا يُجَنّ ويفقد عقله من يُكلَّف مراقبة مئات من الطلاّب فيهم الصغير الغرّ والكبير الذي لا يؤتمَن، وفيهم الوضيء الجميل والماكر السيّئ المقصد، وإلى جوارهم معسكر آخر فيه كبار من