يبحثون فيها بعض شؤون الطلاّب أو يكلفونهم بشيء أحمله أنا إليهم لتنفيذه.
عرفت فارس الخوري من قرب فرأيت فيه رجلاً وديعاً ظريفاً حليماً واسع الصدر، ولكنه كان -مع هذا كله- هائلاً مخيفاً؛ تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة، لا يهزّه شيء ولا يُغضبه ولا يخرج به إلى الحدّة والهياج. يدخل أعنف المناقشات بوجه طلق وأعصاب هادئة، فيسدّ على خصمه المسالك ويُقيم السدود، من المنطق المحكم والنكتة الحاضرة والسخرية النادرة والعلم الفيّاض والأمثال والحِكَم والشواهد، يرقب اللحظة المناسبة، حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة وهو ضاحك، ثم مدّ يده يصافح الخصم الذي سقط. لا يرفع صوته ولا يثور ولا يعبس ولا يغضب، ولكنه (أيضاً) لا يفرّ ولا يُغلَب. وما رأيته -على طول ما صحبته- يناقش أحداً إلاّ شبّهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدلَّلاً غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وكلمته وبسمته صبره عليه، وتملكه منه، وإشفاقه عليه!
ثم كنت تلميذه في كلية الحقوق، وكان يدرّس «علم المالية» و «أصول المحاكمات المدنية»، يلقي درسه إلقاء لا تدري أأنت تعجب وتطرب لفصاحة نطقه أم لغزارة علمه، إلقاء غير محتفَل به ولا متجمَّع له. وكانت له عادة (لازمة) هي أن يأخذ قلماً رصاصياً طويلاً (مَرسَمة) فيقيمه على قاعدته وهو يسقط وهو يداريه ويعاوده حتى يستقرّ ولا يكاد، كأنه يكره أن تبقى يده بلا عمل فهو يشغلها به، أو كأن هذا الدرس لا يستحقّ انتباهه كله ولا