يملأ هذا الرأس الكبير، فيأخذه على أنه لهو وتسلية! على أن هذا (وإن فعله أستاذنا) ممّا لا يحسن بالمعلم لئلا يسرق انتباه الطلاّب بما يصنع عمّا يقول، كما لا يحسن به أن يكون في هيئته أو في لهجته شيء غريب يشغل به الطلاّب عن درسه.
وكنا نورد عليه في آخر الساعة أسئلة من كل فن ومشكلات في كل موضوع، فيجيب عنها كلها بتحقيق العالِم أو نكتة الأديب. ومن أجوبته الحاضرة ونكته السائرة أن طالباً (ثقيلاً) سأله: ما فائدة هذه الحروف اللّثَوية، ولماذا نقول ثاء وظاء فنخرج ألسنتنا ونُضطرّ إلى هذه الغلاظة؟ فأجابه على الفور (وأنا أسمع)، بل لقد أجابه قبل أن يتمّ سؤاله: لا فائدة لها أبداً، وسنتركها فنقول:«كسّر الله أمثالك». فسكت الثقيل خزيان.
ومن عجائب حلمه وسعة صدره ووقاره الذي لا يزلزله شيء أني أقبلت عليه مرة بعد الدرس (وكانت لي عليه جراءة) فقلت له أمام الطلاّب: يا أستاذ، ما هذا القرار السخيف الذي وضعَته البلديّة لتقسيم أرض الدرويشية؟ (وكانت الدرويشية حياً من أبهى وأغنى أحياء دمشق هدمَته مدافع الفرنسيين وأحرقَته نارهم، وبقي أنقاضاً إلى ذلك اليوم. وفي كتابي «دمشق» قصّة عنوانها «في خرائب الدرويشية»). وقلت له: أليس من العار أن يصدر عن بلدية دمشق مثل هذا الجهل وهذا الظلم وهذا الـ ... في عشر مترادفات من هذا النمط ساق إليها نزق الشباب. فلما انتهيت منها قال لي والابتسامة لم تَمّحِ عن شفتيه:"أنا الذي وضع صيغة هذا القرار". وراح يشرح لي مزاياه، ولكني لخجلي لم أستطع أن