وخرجت من الكلية، فكنت ألقاه في الترام أو ألمحه في الطريق، فأجد من إيناسه لي وسؤاله عني ما يملأ نفسي شكراً. وهذه مزيّة من مزاياه، يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد وأنه أقرب الناس إليه، وأنه لا يشتغل إلاّ بذكره ومعرفة أمره.
وكنت أزور أستاذنا محمد كرد علي في المجمع فألقاه مع من كنت ألقى فيه من أعضائه، وهو من أكبرهم، فأراه أحياناً في مناقشات أدبية أو لغوية. فإذا هو في مجال العلم والحفظ كما كان في مجال الرأي والفكر، وإذا هو متسلط غالب في مصاولات اللغة والأدب كما كان المتسلط الغلاّب في مصاولات السياسة.
ومرّت الأيام وصار رئيس مجلس النواب، فكانت رياسته عجباً من العجب. وكان الوافدون على دمشق إذا رأوا آثارها ووعوا مآثرها طلبوا أن يروه في المجلس ليحدّثوا قومهم إذا رجعوا إليهم بجليل ما رأوا. كان النوّاب بين يديه (ولا مؤاخذة يا سادتي النوّاب) كالتلاميذ، بل إن أكثرهم كانوا تلاميذه فعلاً، وكان يصرّفهم تصريفاً لا يوصَف ولا يثبت على الورق، وما هم بالذين يسيَّرون أو يُصرفون، وإن فيهم لَكلّ باقعة داهية ذرب اللسان حديد الجنان، آفة من الآفات يطيح بالحكومات وينسف الوزارات، ولكن الحدَأة تسطو على العصافير فإن قابلَت النسر المَضْرحيّ عادت هي عصفوراً.
وكانت تشتبك الآراء وتتداخل المقترحات وتشتدّ المنازعات وتثور الحزبيّات، فما هي إلاّ أن يتكلم ويلخّص الموقف ويفسّر