الأقوال ويبيّن المقاصد حتى يقرّب البعيدَين ويجمع الشتيتَين، ويصبّ على جمرات الغضب سطل ماء، ويستلّ الرأي الموافق من بين الآراء المتشابكة سَلّ الشعرة من العجين ويعرضه للتصويت. وكان له في هذا العرض «فن» يستطيع به أن يجعل التصويت ينجلي عن الموافقة أو عن الرفض، تنبّهت إليه فكتبتُه، فلقيَني لمّا قرأه فقال لي وهو يضحك: يا عفريت! كيف أدركت هذا؟
وهذا الذي أدركتُه وكتبتُه قبل أن يتنبّه الناس إليه هو أن في النوّاب من لا يعمل شيئاً، حتى إنه لا يرفع يده عند «التصويت». وكان يعرفهم، كل عملهم حضور الجلسات صامتين وقبض الرواتب صامتين. فكان إذا أراد لمشروع أن يفوز قال: المخالف يرفع يده، فيكونون بذلك مع الموافقين، وإذا أراد له أن يخسر قال: الموافق يرفع يده، فيكونون مع المخالفين!
وغضب مني مرة سعد الله الجابري، وكان رئيس الوزراء، ونسب إليّ أني أحرّض عليه. وهو رجل حلبي لا يعرفني، فاضطُررت أن أستشهد بعضَ من يعرفني من رجال الكتلة، فما رأيت أقرب إليّ من فارس بك. وكان رئيس المجلس وقُطْب رحى السياسة كلها، وكان كثير المشاغل ضيّق الوقت، ولم يكن بُدّ من أن أسأله موعداً، ولكني كنت في عجلة من أمري فذهبت إليه بعد العصر في ساعة ينام فيها أكثر الناس، فحاول الشرطي أن يردّني فنهرتُه ورفعت صوتي، فسمعني وخرج إليّ مبتسماً بثياب التفضّل (أي ثياب البيت) وقال له: هذا الشيخ علي، ألا تعرفه؟ إنه دائماً مشاغب!