هي محاضرته الأولى التي قرّر فيها أن الأدب أُلْهِيّة من الألاهي. وهذا مذهبٌ في الأدب، ولكنه اختار أسوأ الأوقات لإعلانه، فقد كنا في عهد نضال للاستقلال نحاول أن نسخّر له قُوى الأمة كلها، فطلع علينا بهذه النظرية يثبّط بها الهمم ويحلّ العزائم، ذلك لمّا قال في محاضرته الأولى يوم ٩/ ١١/١٩٢٩:"فكرت في شيء من الكلام أمهّد به السبيل إلى دراسة الأدب، قلت «دراسة الأدب» وكان يجب عليّ أن أقول «أحاديث الأدب»، لأن كلمة الدراسة تدلّ على شيء من جهد الذهن وعَنَت الفكر، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا أُلهية يتلاهى بها العقل، ولكنها أُلهية شريفة لا تشبه غيرها من الألاهي، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا لذّة الفكر وراحة البال".
لمّا سمعت هذا الكلام قمت أسأله (وقد قلت لكم إنه لم يكن يحبّ السؤال وأنه كان يكره المناقشة) فأجاب جواب كاره، فعدت أسأله فتنصّل واعتذر بضيق وقته وبحلول موعد كان قد ارتبط به، ومضى. فأعددت كلاماً طويلاً بادأتُه به في أول المحاضرة الثانية قبل أن يشرع بها، فلم يدعني أتكلم. ولم أكُن لأسكت أو أنهزم، ورأيت أن مناقشته لم يبقَ لها في الكلية مجال فكتبت رسالة وطبعتُها، والعجيب أني كنت -على ضيق ذات يدي- أطبع هذه الرسائل على نفقتي وأوزّعها مجّاناً أو بثمن لا يكاد يزيد إلا قليلاً عن المجّان، فكان ثمن هذه الرسالة قرشاً سورياً واحداً، أي هلالة (هللة)!
كان عنوان الرسالة «الأدب القومي»(وأنبّه إلى أن كلمة «القومية» لم تكُن قد أخذت المعنى الذي نفهمه منها الآن)