للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ستتصورون أني زهيت بهذا الاستقبال ونفشت ريشي ونفخت صدري. أنا (لا أكذبكم) أُسَرّ بمثله، ولكن ضيقي به وخجلي منه يغلب مسرّتي به. إنه -والله- من أصعب الأشياء عليّ، وطالما فررت من مثله وارتكبت حماقات لا يسيغها العرف ولا يرى لها الناس تبريراً، بل إني أعجز أنا عن تبريرها ولكني لا أستطيع تركها.

ودخلنا المدرسة، وعرض عليّ الإخوان المعلمون ما أشاء من المواد لينزلوا لي عنها، كأنها كلية في جامعة وليست مدرسة ابتدائية في بُلَيدة هي أقرب إلى القرية! فاخترت أقرب المواد إلى الأدب: الكتابة والخطابة والتاريخ. وكنت من حماستي وممّا وجدت من ذكاء التلاميذ وحُسن استجابتهم ورغبتهم في الاستفادة والتحصيل، كنت أريد أن أجعل منهم كتّاباً وخطباء. وجعلت من دروس التاريخ محاضرات وطنية لا مجرد معرفة بأحداث الماضي وتحليل لها وبحث عن أسبابها واستفادة من نتائجها، وكانوا في الواقع أذكياء جداً، لكن التاريخ تاريخ فرنسا لا تاريخ الإسلام ولا تاريخ العرب.

وهذه سُنّة المستعمرين في كل زمان وكل مكان؛ يعمدون إلى الصغار الذين لا تزال عظامهم طريّة وسرائرهم نقية، وهم مستعدّون لقبول كل ما يُلقى إليهم، فيربّونهم على ما يريدون هم لا على ما يريد لهم دينهم ومصلحة بلدهم، يأخذونهم عجينة فيشكّلونها على الشكل الذي يعجبهم ثم يخبزونها في أفرانهم! وقد جروا على هذا لما جاؤونا «مبشّرين» (أي مكفّرين ومنصّرين)

<<  <  ج: ص:  >  >>