للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صافية تتلألأ نجومها كما تتلألأ أضواء الأعراب الذين نصبوا خيامهم حِيال الأكَمة المواجهة للمدرسة، التي تبدو كأنها سفينة أو كأنها موجة في بحر هادئ. أذكر أنها مرّت على نفسي مشاعر ودارت في رأسي أفكار لو أني دوّنتها ... لو، وما نفع لو؟ إن «لو» تفتح عمل الشيطان.

أذكر أني لمّا تلقيت أمر تعييني في سلمية تألمت وبتّ بليلة نابغية لم يغتمض لي فيها جفن، أفكّر فيما أنا مُقدِم عليه، كيف أُلقي بنفسي في قرية على شاطئ الصحراء لست أدري ماذا ألقى فيها من الآلام ومن سأعاشر من اللئام، فما وجدت إلا مسرّةً وكرماً من كل مَن قابلت، ولكنّ منبع هذه المسرات هو الأستاذ بكر (باكير) الأورفلي، فإذا قرأ هذه المقالة أحدٌ يعرفه فليخبره أن السنين الطوال لم تُنسِني كرمه وأني لا أزال شاكراً فضله داعياً له، وإن كان قد سبقنا إلى لقاء ربه فأسألُ الله أن يرحمه وأن يُسكِنه جنّته، وأن يغفر لي ذنبي لأكون في جواره (١).

لقد كنت أستحي من كثرة ما كان يوليني من الإكرام؛ أخبرتُه عرَضاً أني إن لم أشرب الشاي بعد الطعام فكأني ما أكلت وأن أكلتنا الشامية، أكلة الفقراء (الزيت والزعتر) مع الشاي أفضل عندي من خروف محشوّ بلا شاي. وما كدت أنتهي من كلامي حتى قُرع جرس الدرس فدخلتُ، فلم تمرّ عشر دقائق حتى جاءني فقال: إن زائراً ينتظرك في غرفتي، فاذهب وأنا أقوم


(١) قدم مكةَ ولدُه ولكني لم أستطع أن أقوم بحقّه، وترك لي رسالة من مجموعة الرسائل التي بعثت بها إلى أبيه. رحم الله أباه وبارك فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>