للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه مئتان أو ثلاثمئة سنة، وإلاّ عُدّ نصف دمشق القديمة ونصف القاهرة من الأماكن الأثرية؛ الأثر هو ما مرّ عليه قرون طويلة أو كانت له دلالة تاريخية خاصّة.

أمضيت ليلة من أشدّ الليالي التي رأيتها في حياتي: ظلمةٌ ووحشة وصمت، والساعات تمرّ بطيئة كأن الدقيقة فيها ساعة، وقد انقطع تيّار الكهرباء فأوقدت مصباح الكاز (النفط). إن بقيت في الغرفة أحسست كأن جدرانها تتقارب وتتدانى حتى تُطبِق على صدري، وإن خرجت في الظلام حسبت كل ضوء أراه من بعيد أو أتوهّم أني رأيته، أحسبه عينَي ذئب أو ثعلب، وهي كثيرة في تلك الناحية. وإن لمسَت رجلي وأنا أمشي نبتةً جافّة ظننتُها عقرباً. والأرض، بل والمدرسة، ممتلئة بالعقارب. وإن حملت الفانوس خفت! لا تتعجبوا من قولي ««خفت»، فإنه خوف العاقل لا خوف الجبان، وأنا لي عيوب جمّة ولكن ليس منها الجبن، والتفكير في الأخطار والابتعاد عنها ليس من الجبن. كنت أخاف لأن هذا الفانوس يُرى في تلك الفلاة من مسافة عشرة أكيال أو أكثر من كل جهة، ولعل في الجوار لصاً أو مجرماً يطمع بي، يراني وأنا لا أراه، فالعقل يقضي عليّ بأن أطفئه وأخوض ظلام الليل، فظلام الليل أهون من ظُلم البشر. ومشيت حتى تعبت ومللت فعدتُ، وطال الليل. وجعلت أذكر كل ما أحفظ من الشعر في الشكوى من طول الليالي، من ليل امرئ القيس ملك الشعراء (إن كان شوقي أميرَهم) ووليّ عهده النابغة، إلى آخر من أعرف من رعاياه. ثم رأيت أنّ أصدَقَه قول بشار: «لم يطُلْ ليلي ولكنْ لم أنَمْ».

نعم، فالليل لا يطول ولا يقصر ولكن مقاييس الزمان عندنا

<<  <  ج: ص:  >  >>