وركبت -مع ثلاثة يقصدون دمشق- سيارة صغيرة. واستأذنت أن أركب جنب السائق لأني كنت (ولا أزال) إذا ركبت وراء أصابني شيء من دُوار، أو توهّمت أنه أصابني. وكانوا كراماً فأذنوا لي. وما سرنا إلا قليلاً حتى بدأ السائق ينعس ويكاد رأسه يميل على مِقوَد السيارة، فنبّهناه فلم يتنبّه، وكان الطريق ضيّقاً وهو يصعد حتى يبلغ أعلى لبنان الشرقي، ثم يهبط وهو يلتوي ويدور، ومن غفل من السائقين وهو يقظان في النهار تعرّض للأخطار، فكيف بمن يسوق السيارة نعسانَ في سواد الليل؟ وكان معنا راكب كهل من حماة، أبيض الشعر وقور، ولكنه متين البنيان قوي الجسد كأنه مصارع من أصحاب الوزن الثقيل، وكانت له يد كفّها بعرض كفّيّ معاً، وهو يتكلم ببطء بالسرعة الإملائية، وهي تسمية ابتدعَتها محطة الشرق الأدنى في يافا قبل الحرب الثانية، تُلقى فيها النشرة الإخبارية جملة جملة لينقلها مُخبِرو الصحف.
فتوجّه إليه وقال له: يا ولدي، الله يرضى عليك، العجلة فيها الندامة والطريق خطر، وأنا لا أخاف على نفسي فأنا كهل، ولكن أنت شابّ ولك عيال، إلخ. وهو يقول: نعم، نعم، أمرك يا عمّ، أمرك. ولكنه يعود إلى ما كان فيه، ويخفق رأسه حتى يميل على المقود. فما كان من الكهل إلاّ أن طلب منه أن يقف السيارةَ دقيقة، فظنّ أنه يريد النزول لقضاء حاجة، فوقف والتفت إليه وقال: نعم؟ فلم يشعر إلا بهذه اليد تنزل عليه بضربة لو أصابت ثوراً لتَضَعْضَع ولو كانت بمصارع لهوى، وعاد يقول له بالسرعة الإملائية والصوت الخفيض واللهجة الحانية: يا ولدي، الله يرضى عليك، العجلة فيها الندامة ... إلى آخر المحاضرة.