للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثياباً زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهنّ زهراتٍ من زهرها، على شمول ثيابهن وسترها. وتظنّ الربيع قد جاء في الخريف حين تكون الأرض مفروشة برقائق الذهب من صفرة الأوراق التي نثرها الخريف، كنّثار الدنانير على بساط من السندس في عرس أمير، والبقر الفاقع الصفرة الرائق اللون كأنه تماثيل في متحف فرعوني صُبّت من خالص العَسْجَد، ثم يأتي الشتاء فتخلع الأشجار ثيابها على حين يتدثّر الناس بالصوف، و «الحور» لم يبقَ منه إلاّ عيدان، فكأن «الحور» فتية أذاب جسومَهم الغرامُ فأضحوا من جَواه جلوداً على عظام. و «المشمشات» كأنهن معشوقات هجرَهنّ الأحبّة، و «الجوز» العاري يقف صابراً عظيماً في محنته كما كان عظيماً في نعمته. أما الزيتون فلا يُرى إلاّ لابساً ثيابه، لا هو يلقيها عنه يضحك بالزهر إن أقبل الربيع ولا يأسى إن جاء الشتاء وبكت السماء، فهو الفيلسوف الذي لا يبالي من الحياة أفراحَها ولا أتراحها ولا يحسّ نِعَمها ولا نِقَمها. و «السواقي» وهنّ جَوارٍ من كل جهة إلى كل جهة، ساقية تجري عميقة بين الأعشاب لا يوصَل إليها ولا يُنال ماؤها وأخرى ظاهرة مكشوفة، وواحدة تنحدر انحداراً لها صخب وهدير وثانية تسير صامتة في أصول الأشجار، وصافية نقيّة وعكرة خبيثة، وسالكة طريقها قانعة بمجراها وكاسرة حدودَها عادية على غيرها ... فكأن سواقي الغوطة صورة لنا في حياتنا نحن الناس؛ كل يعمل على شاكلته وكل مُولٍّ وجهته ساعٍ إلى غايته، والوجهات متعارضات والغايات مختلفات، ولكن كل ساقية تعرف طريقها.

والناس كالسواقي؛ ينزل ماؤها إلى الحضيض على أهون

<<  <  ج: ص:  >  >>