للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبيل ولكن لا يصل إلى المعالي إلاّ إنْ ضخّته مضخّات وبُذل فيه كبير النفقات. الناس كسواقي الغوطة، عميق النفس لا تدرك قرارته ولا تعرف حقيقته، وواضح بيّن ظاهرُه كباطنه وباطنُه كظاهره، وجيّاش صخّاب وصامت سَكوت، ونقيّ الطويّة وخبيث السريرة، ومنصف وظالم، وكبير وصغير ... وكل يستمدّ من غيره ويمدّ سواه.

هذه هي الغوطة، إن رأيتها ففَتَنك جمالها وبهاؤها فقد فَتنَت مِن قبلك ملوكاً وقُوّاداً وأدباء وعلماء، وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي لها مسرات. هذا، وقد وصفتها لك في الخريف، ولو رأيتها حين تهبّ عليها نسائم الربيع فتلبس حلّة بيضاء أو صفراء أو حمراء من الزهر، ويُترَع جوّها من زهرها العطر، إذن لرأيت جنة الدنيا وبهجة العمر" (١).

* * *

ولكن «الغوطة» التي قرأتَ وصفها لن تجد إن زرتَها الآن إلاّ نصفها، كانت حاضراً يُرى فصارت تاريخاً يُروى؛ لقد أكلَتها الدور الجديدة، أعني أقفاص الإسمنت التي تراكمت فصارت عمارات يركب بعضها ظهر بعض، ترتفع ارتفاع المنارات ويزدحم فيها الناس ازدحام السردين. فيا أسفي على دمشق، ويا حسرتا على أني لم أكُن شاعراً!


(١) ما بين الأقواس من مقالة «هذي دمشق»، وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعبر من نضالها» (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>