للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وألاّ نتكلف لمفقود. وأذكر أن أحد آباء التلاميذ من أغنياء القرية ووجهائها رثى لي وبعث إليّ بمائدة صغيرة، فرددتُها شاكراً وأفهمتُه أن هذا طعام آكله في بيتي. وأنا لا أزال آكله إلى الآن وربما آثرتُه على أطايب الطعام، فإن كان بدل الشاي بطيخ أحمر كان أطيب عندي من موائد الملوك (أحياناً لا دائماً). وربما بعثت تلميذاً فجاءني بأوقية (وهي مئتا غرام) من اللحم المشوي ثمنها مع الرغيف فرنك واحد، أي خمس هللات!

* * *

وكنت أدرّب التلاميذ على فنون من الرياضة وأرغّبهم بها لتصحّ أجسادهم، وأعلّمهم المشيَ بانتظام، ثم نخرج أحياناً بعد الدروس فنزور القرى المجاورة، ونصل إلى «جسر الغيضة» حيث يجري بردى ممتلئاً جيّاشاً وعنده خمائل ممتدّة وأشجار مزدحمة أشباه الغابات، كان لها -لا سيما في منطقة «الزور» - دور كبير أيام الثورة السورية. وكانت قريتنا وما جاورها من القرى تزرع القنّب، وهو قصب لطيف إذا نُزعت قشرته عاد مثل الخشب الناعم، ولكنه ضعيف ينكسر لأدنى ضغط، مجوّف يلعب به الأولاد يسحبون به الماء بأفواههم من النهر، ويُحمَل على الدوابّ بعد أن يُصَفّ صفاً في إبالات كبيرة (١)، القنّب الطويل في أطرافها والمكسَّر في وسطها، ليؤخذ إلى أفران الشام توقد به النار، لأنه سريع الاشتعال حتى لَتُضرَب به في ذلك الأمثال، كما


(١) الإبالة (ويقول لها العوام بالة) الحزمة الكبيرة أو الصغيرة، ومنه قولهم «جاء ضغثاً على إبّالة» بمعنى قول العامّة «زاد الطين بلّة».

<<  <  ج: ص:  >  >>