للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكنه أطول، ومن فوق الجبل أقرب ولكنه أصعب. ولم تكن معنا سيارة (ولا تستطيع أن تمشي سيارة بلا طريق)، لذلك جاؤونا بدابّة واحدة لنتناوب ركوبها، فتركت لهم نوبتي وسرت على قدمي لأني وجدت المشي أهون من ركوب هذه الدابة.

"وذهبنا نصعد الجبل، وكلّما بدت لي قمة قلت: هذه هي النهاية. فإذا وصلت إليها بدت لي من بعدها قمم، وتلفتّ إلى الوراء فإذا منين كلها بقدر الكفّ، وإذا هي من عمقها كأنها في قعر البحر، وإذا أمامنا وعن أيامننا وعن شمائلنا جبال وبِطاح لا حدّ لها مغطّاة كلها بالثلج، وإذا نحن نبلغ موضعاً نُشرِف منه على دمشق من بعيد ونرى جبل قاسيون كأنه أكَمَة تحتنا (أو كذلك خُيّل لنا)، ثم تَوَعّر الطريق فغدا شِعْباً ضيّقاً، على يمينه جبل عال كأنه جدار وعن شماله وادٍ لا يبلغ البصر قرارته" (١). وبلغنا حلبون بعدما بلغت أرواحنا التراقي.

وليست القصة عن بلوغنا حلبون ولكن عن الرجوع منها.

بتنا فيها، فلما كان الغد أبى أنور أن يعود معي وأصررت على أن أعود، فذهبوا يفتّشون لي عن دابّة تحملني ودليل يدلّني، فلم يأتيا إلاّ بعد العصر، فودّعتهم وسرت مع الدليل. وقد نسيت أن أقول لكم إننا كنا في قلب الشتاء، وإن الثلج كان يغطّي تلك الجبالَ كلها ويرتفع سُمْكه أحياناً حتى تغوص فيه القدم، وربما علقت به فلم تدرك صلابة الأرض، وإن الوحوش كثيرة، يدفعها الجوع إلى الإقدام على الفتك بالإنسان. لذلك كنا كلما رأينا


(١) ما كان بين قوسين فهو من المقالة القديمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>