للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لمّا نُقِلت هذه النقلة كنت في قلب الشتاء، وكنت أستطيع أن أطلب إجازة ولكني لم أقبل الهزيمة، وكانت هِمّة الشباب تملأ جوانحي، فحزمت حقيبتي وركبت إلى صيدنايا، فلما بلغتها ووقفَت السيارة الكبيرة فيها ونزل منها رُكّابها قلت: ولكني أريد الوصول إلى رنكوس. فقالوا: مستحيل. قلت: ولِمَ؟ قالوا: الطريق مقطوع قد سدّته الثلوج. قلت لصاحب السيارة: أدفع لك ما تريد فأوصلني. قال: ما عندنا ركّاب فهل تدفع أجر المقاعد كلها؟ قلت: نعم. قالوا: وإن لم نستطع الاستمرار في السير؟ قلت: إن لم تستطيعوا فعودوا والأجرة لكم.

وسرنا وسط الثلوج في طريق جبلي خطر، فلما بلغنا نصفه أو أكثر قليلاً لم يعُد بالإمكان أن تتقدم السيارة ذراعاً واحداً. فقلت: عودوا وأنا أمشي. قالوا: كيف تمشي؟ الطريق خطر ولا يخلو من وحوش، والثلوج كما ترى.

فأصررت ومشيت؛ مشيت نحو ساعتين ونصف الساعة، الله وحده يعلم ما قاسيت فيهما، وكان البرد يَقصّ العظم. ووصلت فسألت: أين المختار (أي العمدة)؟ فنظروا إليّ مدهوشين كأنهم يرون فيّ جنّياً طلع عليهم، وقالوا: مَن أنت؟ وكيف جئت؟ قلت: أنا المعلم، وقد جئت ماشياً من نصف طريق صيدنايا.

وكانوا رجالاً صِلاب العود يقحمون الأهوال، فعجبوا من شابّ شامي يبدو في أنظارهم رقيق العود قليل الصمود، يفعل ما لا يُقدمون على فعله. ودلّوني على المختار، وكان قاعداً مع صحبه على دكّة (مَصطبة) يواجه شمس الشتاء الضعيفة، فسلّمت فردوا

<<  <  ج: ص:  >  >>