وكذلك صنع الزمان ببصرى والجابية وممفيس التي ذهبت وبقيت خيمة عمرو بن العاص (أي فسطاطه)، والمدائن صارت «سلمان بك». نسي الناس اسم كسرى وذكروا اسم سلمان، فكان قبره أبقى على الزمان من ذلك الإيوان!
استقبلَنا أهلُ بصرى بالأضواء والمشاعل والأهازيج والأغاريد. وكانت ليلة وصولنا كأنها ليلة العيد، خلَت فيها البيوت وسالت بأهلها الطرق، ونزلنا على قوم كِرام أرونا من ألوان الرعاية ما عجز عن شكره اللسان، وأرادونا على المبيت فأصررنا على السفر، وطلبنا دليلاً عارفاً بالأرض يسلك بنا مسلكاً يوصلنا إلى «القُرَيّات» في أرض عبد العزيز دون أن نمرّ على الأزرق التي يسيطر عليها «أبو حنيك».
وأبو حنيك هذا هو غلوب باشا الإنكليزي، داهية من الدواهي، والعرب يعبّرون بصيغة التصغير عن التعظيم والتكبير، فيقولون في مثله:«دُوَيهِيةٌ تَصْفَرُّ منها الأناملُ»(١). رافق العربَ وعاش معهم في باديتهم وجرى على عاداتهم في طعامهم ومنامهم، وعرف لهجات قبائلهم وصار يكلّمهم بلهجاتهم. وأنا أحسب أنه كان صادقاً في حبّ العرب، أعني عاداتهم ولغاتهم لا أعني أنه يُؤْثر مصالحهم على مصالح أمته. ويؤكّد هذا حديث لمندوب من «المجلّة» أجراه معه من قريب، ولقد سَمّى ولده باسم عربي وملأ داره في لندن بذكريات حياته مع العرب التي يبدو أنه لا ينساها ولا يزال يأنس بذكراها.
(١) من ذلك ما يُلاحَظ هنا في المملكة من كثرة الأسماء المصغَّرة يُسمّى بها كبار الرجال.