فما ناموا، ولكن قاموا يشكون كلهم الرثيّة (أي الروماتيزم) ويحسّون الألم في مفاصلهم وفي ظهورهم، وأصبحنا نحن وما نمنا فاسترحنا ولكنا ما مرضنا ولا وجعنا، ولقينا من الشدّة ما ذكرنا معه بالخير ليلة «أم الجمال»، وهذا جزاء الجاهل يركب رأسه ويعصي عقلاء الرجال.
* * *
تبدّل كل شيء بعد القريات. كنت أراها نهاية السفر فصارت بدايته، كانت هي غايتَنا فصارت الغاية تبوك، وأين منّا تبوك؟ ولو أننا مشينا مع خطّ الحديد نتجه جنوباً لكنّا قد وصلنا الآن إليها، فهي تبعد عن دمشق أقلّ من سبعمئة كيل ونحن قد مشينا إلى الآن أكثر من ألف وخمسمئة، لكننا كحمار السانية، وقديماً قالت العرب:«سَيرُ السّواني سفرٌ لا ينقطع»؛ أنها تسير وتسير وهي في مكانها، تدور في حلقة مفرَغة من حول بئر الماء، ونحن ندور حيث لا ظلّ ولا ماء.
بدأت الآن المتاعب التي أرتنا ما كان قبلها بالنسبة إليها نوماً على فراش الحرير. كنت أتلفّتُ إلى دمشق بقلبي كما تلفّت الشريف، فلما رأيت هذه الصعاب صار تلفّتي إلى الأمام، إلى المَخلص منها والبعد عنها. لقد كانت سنة رحلتنا سنة جدب، حتى إننا سرنا ألف كيل بل أكثر، ما رأينا فيها ماء إلاّ ماء آسناً لا يُشرَب، ولا قابلنا فيها أحداً، فقد نزحَت القبائل عن تلك الديار، وما مررنا فيها ببقعة خضراء. ومن أين الخضرة ولا ماء، لا نابعاً من الأرض ولا نازلاً من السماء؟ لقد أحسَسْتُ كأننا منقطعون