يزدحم الناس على نوافذ البيوت التي يمرّ بها، وربما استُؤجِرت النافذة بالمبلغ المرقوم، وربما نام الناس على أطراف الطريق من قصر المُشيريّة (وهو الآن القصر العدلي) إلى آخر حيّ الميدان. وقد شهدت آخر مرّة خرج فيها المحمل، يمشي معه الوجوه والأعيان والمرتزِقة و «المهرجون» وأصناف الناس. فإذا انتهى الوداع خرج الحُجّاج في قافلة عظيمة إلى مُزَيْريب، وهي أدنى قرى حوران من دمشق، فدرعا (أذْرِعات)، فعمّان (وكانت عمان قرية، وأنا أعرفها كذلك)، ثم إلى معان.
ويأتي الحُجّاج المصريون بقافلة مثلها أو أعظم منها من طريق العقبة فيها المحمل المصري، فيلتقي المحملان غالباً في معان ثم يمشيان إلى تبوك. وللمحمل المصري مراسم أضخم ووداع أعظم، وكلاهما بدعة في الإسلام تُرتكَب يوم وداعه في مصر وفي الشام مُنكَرات كثيرات، حتى كان حادث المحمل الذي سبّب الجفوة حيناً بين مصر والسعودية، وستعلمون نبأه بعد قليل.
وكانت القافلة تقطع على الطريق من دمشق إلى المدينة أربعين ليلة، تمشي في النهار على الجمال (في الشقادف والهوادج) وعلى الدوابّ، وكثير من الناس يمشي على رجليه، فإذا دنت القافلة من المنزل سبقها الخيّامون فنصبوا الخيام، والباعةُ والصنّاع وتقدّمها الأعوان فأعدّوا الطعام، فلا يجيء الليل حتى تقوم في البرية مدينة كاملة، تُولَد العشيّة وتموت من صباح الغد.