الشام أشد البلاد عناية بالطعام وبراعة في صنعه وكثرة في أصنافه، وما أقول ذلك فخراً لأني شامي المولد والمنشأ (وإن كنت مصري الجد)، فما فخر الإنسان بالطعام، إنما ذلك شأن الأنعام، ولكن الفخر بالدين والخلق. والشام (أو كانت الشام) مع عنايتها بالطعام من أكثر بلاد المسلمين تمسكاً بالدين وحفاظاً على الخلق الكريم.
وأكثر ما يتجلى الأمران في رمضان: عندنا أطعمة خاصة بأزمان خاصة، ما لها أصل شرعي ولكنها عادات لا يأمر بها الشرع ولا ينهى عنها؛ ففي عاشوراء «الحبوب»، وهي أكلة معروفة وتسمى في مصر بالعاشوراء. وفي رجب يصنعون ما يسمّونه «ليلة الله»(أو «ليتَلاّ»، بلام مفخَّمة مشدَّدة)، وكنت أفرح بها وأنا صغير وأتغزّل (قبل أن أبلغ سن الغزَل) بشكلها قبل طعمها. إنها حلقات كالأساور، منها ما يكون بعرض الإصبع أو الإصبعين أو الأربعة، فيها خطوط ملوَّنة بشتى الألوان، كألوان الرائي (التلفزيون) الملون التي تظهر قبل عرض البرامج، مصنوعة من السكر المطبوخ الجاف على شكل الزجاج الملون، تنكسر إن وقعت أو مسّت شيئاً قاسياً، يوضع بعضها فوق بعض على عود من القنّب (وقد مر بكم ذكره في هذه الحلقات)(١)، عندما تراها عند البياع ترى منظراً عجباً، تحسب أنك وقعت على كنز من روائع البلّور (الكريستال). وهذه الحلوى تُصنَع في رجب.
(١) في الحلقة الحادية والستين (في الجزء الثاني) عند الحديث عن ذكريات مدرسة سقبا. قال: "وهو قصب لطيف إذا نُزعت قشرته عاد مثل الخشب الناعم ولكنه ضعيف ينكسر لأدنى ضغط" (مجاهد).