اليوم رأيت فيها مئات ومئات من المصابيح الكهربائية، وهذه حالها اليوم، أمّا حالها لمّا كنت في الابتدائية قبل خمس وستين سنة فقد كانت شيئاً آخر، شيئاً يوصَف ولا يُرى لأنه فُقد ولم يعُد يوجد. كان مكان المصابيح الكهربائية سرج: كؤوس صغيرة جداً كالتي نشرب فيها الشاي، تُملأ بالزيت ويوضع فيه الفتيل، وهو خيط غليظ من القطن المفتول ولذلك سُمّي بالفتيل، لأن «فَعيل» تأتي بمعنى «فاعل» وبمعنى «مفعول».
والصورة الراسخة في الذاكرة هي صورة هذه الثريّا التي تعدل بحجمها قبة مسجد، المربوطة بحبل معلّق ببَكَرة، يُنزِلونها حتى تستقرّ على الأرض بعد أن يبسطوا تحتها بساطاً مشمّعاً لئلاّ يوسخ الزيتُ السجّاد، ثم يلتفّون حولها ويُشعِلون الفتيل في السراج حتى تضيء السرُج كلها، ثم يشدّون الحبل فيرفعونها، فتراها من تحتها والسّرُج ترتجف شعلاتها وتتراقص مثل النجوم المتلألئة في السماء الصافية في الليلة الساكنة. ويستغرق إيقاد هذه السرُج الوقت كله من المغرب إلى العشاء.
* * *
نشأت في دمشق، وفي دمشق عرفت رمضان وأحببت رمضان. ثم كتب الله لي (أو كتب عليّ) أن أشرّق في الأرض وأغرّب، مشيت إلى أقصى الجنوب الشرقي من آسيا إلى مدينة سورابايا وإلى فولندام في أقصى الشمال من هولندا (١) وأن أرى
(١) كلمة «دام» في أمستردام ونوتردام وغيرهما معناها سدّ. إن هولندا (المعروفة بالأراضي المنخفضة) أرض مسروقة من البحر تختبئ وراء السدود.