رمضان حيثما سرت، لا في سنة واحدة بل في سنوات كثيرات وأزمنة متباعدات.
في مصر سنة ١٩٢٨ وأنا طالب في دار العلوم ومحرّر في «الفتح» وفي «الزهراء»، لمّا كان سكان مصر ثلث سكّانها اليوم وكانت القاهرة بربع حجم القاهرة، لمّا كانت القاهرة عاصمة العرب، شوارعها أنظف الشوارع وميادينها أجمل الميادين ومواصلاتها أسهل وأسرع المواصلات، والجامعة الوحيدة في بلاد العرب كلها كانت فيها (ولم أعدّ جامعتَي بيروت الأميركية واليسوعية لأنهما ليستا لنا)، وكان الأزهر «جامعاً» للطلاّب المسلمين فصار «جامعة» للناس أجمعين، وفيها حديقة الحيوان التي لا تفوقها جمالاً وسعة وعظمة إلاّ ثلاث حدائق في العالم، وفيها وفيها ... فما كتبت اليوم لأعدّ الذي كان فيها.
وأن أرى رمضان في العراق لمّا كنت مدرّساً فيه، تنقّلت بين بغداد والبصرة وكركوك، أمضيت في الأعظمية سنة قلّما استراحت روحي مثل راحتها فيها. كنت أدرّس في الثانوية المركزية وأحاضر في دار المعلّمين العليا، وكنت حلقة من النحاس في سلسلةٍ حلقاتها من خالص الذهب: كان سَلَفي الأستاذان أحمد حسن الزيات ومحمد بهجة الأثري، وخلَفي الأستاذ زكي مبارك، هم الذهب وأنا حلقة النحاس. وكنت أدرّس في مدرسة الإمام الأعظم أبي حنيفة الذي تشرّفَت الأعظمية بانتسابها إليه، وكنت أنام في المدرسة وهي متصلة بالمسجد، فكان بين مضجعي المؤقّت في الكلّية ومضجع جسده في مدفنه ثلاثون متراً.