ذكّرَتني هذه الحادثة بأخرى تشبهها ولو من بعيد: بعثتني وزارة العدل في الشام في مهمة قانونية إلى مصر أنا وزميلي في القضاء، رفيق السفر والحضَر الأستاذ نهاد القاسم رحمه الله، الذي صار وزير العدل في القاهرة أيام الوحدة. فلما قابلنا وزير العدل هناك (وكان خشبة باشا) كان أول ما قاله بعد السلام أنْ سألَنا عن رجل من الشام اسمه الشيخ أبو الخير الفرّا (أي الفرّاء)، فخبّرناه خبره وعجبنا من سؤاله عنه. ورأى العجب على وجوهنا فقال: أنا أخبركم بسبب سؤالي عنه. قدمت دمشق في العشرينيات من هذا القرن، فنزلت فندقاً في المرجة. فلما جلتُ في البلد وصعدت إلى «المهاجرين» على سفح قاسيون رأيت داراً مفتوحاً بابها وأمامه رجل على كرسي، فأعجبني المكان ومنظر البلد والغوطة من حولها يبدو واضحاً (١)، وسألت الرجل: أليس ها هنا فندق أنزل فيه أياماً؟ قال: نعم، تفضّل. ودخلت فأعطاني غرفة ما ارتضيتها، فقلت: أريد خيراً منها. فأعطاني غيرها فرضيتها، وسألت عن الطعام فقال: أطلب كل يوم ما تريده. فنزلت عنده، وجعلت أطلب الطعام والشاي وأكلّف الخادم بكل ما أشتهيه فيأتي به. استطبت المقام فأطلت المدّة، حتى إذا انقضى أسبوعان وعزمت على الرحيل فقلت له: أنا راحل غداً. قال: بسلامة الله. قلت: فأين قائمة الحساب؟ فضحك وقال: حساب إيش؟ هل تحسبه فندقاً؟ إنه بيتي وأنت ضيفي!
* * *
(١) لم يكن وأنا صغير شيء من البنيان تحت الجادة التي يمشي فيها الترام.