المال (جزاهم الله خيراً) ما مدّوا به سلاسل المصابيح من مسجد القصب إلى دارنا، مسافة ستّمئة متر أو تزيد، وأقاموا الأقواس من أغصان أشجار الغوطة وزيّنوها -على عادة الشاميين في تلك الأيام- بصوَر زعماء الوطنية أمثال هاشم الأتاسي وزكي الخطيب وشكري القوّتلي، ومعها الصورة المتخيَّلة التي تُعلّق على جدران القهوات، صور عنترة وأبي زيد الهلالي.
وجاءت الوفود مهنّئة أفواجاً أفواجاً. ولكن أين أستقبلها وما في الدار إلاّ غرفة واحدة ما فيها أرائك (كَنَب)، ما فيها إلاّ فرش عربي لا يصلح إلاّ لاستقبال الأصدقاء المقرّبين والأقرباء الأدنَين، وما في الدار كراسي أصفّها ليقعد عليها القادمون من المهنّئين؟ ولكن كانت لنا يومئذ رابطة أضعناها؛ كان الجيران كلهم كأنهم إخوة، كانت بيوت الحارة جميعاً كأنها بيت واحد، فإن كان في بيت منها عُرس أو كان فيه مأتم، فكل كراسي الحارة تكون عندهم وكل الكؤوس والأواني التي يحتاجون إليها تأتي إليهم.
وأنا رجل يعرفني الناس كلهم من فوق المنبر ومن صحائف الجرائد، ولكني كنت (ولا أزال) متوحّشاً لا أنغمس في الحياة الاجتماعية، وكنت (ولا أزال) أعُدّ أكبر المتع خلوة بكتاب أقرؤه أو إخوان زادت بيني وبينهم الألفة وزالت الكلفة أجلس معهم. وجاءت الوفود وتبرّع أهل الحارة ومن كان من الجيران في استقبالهم ووداعهم، وفعلت ما أقدر عليه، إلى أن جاءني أحد الجيران راكضاً يلهث، قال: قم فانظر، سبعون أو أكثر من الفرسان من «الزكرتيّة» جاؤوا على خيولهم، على رأسهم