وكنت في المجالس الأدبية وعلى منابر الخطابة أو كراسي المحاضرة أقعد مع من هم وزراء وأمناء (أي وكلاء) أو مديرون ... فإن جاءت الوظيفة بقي هؤلاء في أماكنهم ونزلت حتى أقعد مع معلّمي الابتدائي، أي مع موظفي الدرجة الخامسة، أي مع الذين لا تزيد رواتبهم الشهرية عن ست وثلاثين ليرة في الشهر!
ولكن كيف أقول هذا ولا أخشى أن أُتَّهم بأنني مُدّعٍ بلا دليل وأني مغترٌّ بنفسي بلا حقّ؟ كيف آمن أن يعدّني القراء من مادحي أنفسهم؟ إن لديّ أثواباً جميلة غير ما يراه عليّ من يعرفني هنا الآن، ولكني إن لبستها ورآني من لم يرَها عليّ ظن أني سرقتها أو استعرتها، فكيف لي بإقناعه أنها ثيابي أنا، لم أسرقها ولم أستعرها؟ كيف أقول لهم إني كنت في الوظيفة معلّم ابتدائي، موظفاً من الدرجة الخامسة، ولكني كنت في المجتمع وفي مجال الأدب ومجال العلم في مرتبة أعلى من ذلك؟ ولكن لماذا رضيت بالدنيّة فصرت معلّم ابتدائي؟ كان الطلاب هم المحرّك (الدينمو)، وكنت أقود الطلاّب وأحرّكهم. كنت أول خطيب بين الشباب يرتجل خُطَباً تثير الناس وتهيج الجماهير، وكان لي فوق ذلك قلم إن شئته غصناً من أغصان الجنّة أورقَ وأزهرَ وأنعشَ القلوب، وإن شئتُه حطبة من حطب جهنّم أحرقَ ودمّر. وكنت فوق هذا وذاك أعمل في أكبر جريدة وطنية هي جريدة «الأيام». وكانوا مستعدّين -لمّا عرضوا عليّ الوظيفة- أن يُعطوني وظيفة من الدرجات العُلى كما فعلوا مع غيري ممّن جاء بعدي وكان دوني، ممّن لا يملك من الوسائل التي تخيفهم منه وتدفعهم إلى استرضائه ما أملك، فلماذا قبلت أنا أن أكون معلّماً؟