الدنيا إلى بقعة مقفرة خالية ما فيها ماء وليس فيها بناء وليس فيها شجرة خضراء، فإذا وصلوا قيل لهم: مكانكم! قفوا لا تدخلوا حتى تخلعوا ثيابكم كلها. وبالثياب يتفاوت الناس وبالثياب تتكوّن شخصياتهم، ولولا الثياب ما كانت هيبة رجل الدين وسطوة رجل الجيش في نظر العامّة، ولا امتاز غنيّ عن فقير، فإذا خلعوها اختلطَت الطبقات كلها حتى صارت طبقة واحدة هي طبقة الحُجّاج. لا نقول هنا للأمير: يا سُمُوّ الأمير، ولا للمدير: يا سعادة المدير، ولا نخاطب العظيم بخطاب التعظيم؛ فما ها هنا أمير ولا مدير، ولا غنيّ وفقير ولا كبير وصغير، ما هنا إلاّ حُجّاج. فتقول لكل من تراه غداً هنا: يا «حاجّ» ولا يغضب من قولك بل يُسَرّ به ويراه أبلغ التكريم.
فأروني موقفاً آخر عرفه البشر من أقدم الزمان إلى الآن يزول معه التفاوت بينهم في الثياب وفي البيوت وفي الألقاب؟ قد يأتي إلى المَشاهد الدولية والمعارض العامّة وحفلات المباريات وكثير من المناسبات، قد يأتي أعدادٌ من البشر تعدل أو تزيد على أعداد الحُجّاج في بعض السنين. ولكنهم يأتون ومعهم دنياهم تفرّق بينهم: ثيابهم تفرّق بينهم، مساكنهم: هذا في نُزُل (موتيل) على الطريق وذاك في أفخم فندق في المدينة، وهذا يزاحم ويقف في الصف ليصل إلى ما يبتغي وذاك يسبق أو يتأخر ليخلو له الطريق.
وهنا (في الحجّ) نظام عامّ، قانون شامل، كلهم يقفون في موقف محدّد في وقت محدّد ويعملون العمل المحدّد. جميعهم يقف في عَرَفات ويمرّ في مُزْدَلِفة، ويطوف ويرمي، لا ميزة