للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْل، وَبِهِ قَالَ دَاوُد وَقَالَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ الْوَاجِبُ الْمَسْحُ وَلَا يَجُوزُ الْغَسْلُ، وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُكْتَرَثُ بِمَنْ يَخْرُجُ عَنْ الْجَمَاعَةِ فَالْغَسْلُ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ قَالَ صَاحِبُ الْجَمْعِ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَشَارَ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إلَى وُجُوبِهِمَا مَعًا وَهُوَ بَعِيدٌ.

(قُلْتُ) بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ وَالتَّخْيِيرِ: وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ. قَالَ: وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ فَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ يَكُونُ وُجُوبُ الْغَسْلِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِمَسْحِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَرِّ فَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ إلَّا الْغَسْلُ فَيَتَعَيَّنُ وَيُجَابُ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى الرُّءُوسِ وَإِنَّمَا هِيَ مَخْفُوضَةٌ عَلَى الْجَوَازِ. حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُحَقِّقُونَ وَرَأَوْا أَنَّ الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ لَا يَحْسُنُ فِي الْمَعْطُوفِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ حَاجِزٌ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ وَمُبْطِلٌ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ حَمْلٌ عَلَى شَاذٍّ يَنْبَغِي صَوْنُ الْقُرْآنِ عَنْهُ وَقَالُوا: الْخَفْضُ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَطْفِ عَلَى لَفْظِ الرُّءُوسِ، فَقِيلَ: الْأَرْجُلُ مَغْسُولَةٌ لَا مَمْسُوحَةٌ فَأَجَابُوا بِوَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَسْحَ هُنَا هُوَ الْغَسْلُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَكَى لَنَا مَنْ لَا يُتَّهَمُ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ قَالَ: الْمَسْحُ خَفِيفُ الْغَسْلِ يُقَالُ: تَمَسَّحْتُ لِلصَّلَاةِ وَيُرَادُ بِهِ الْغَسْلُ وَخُصَّتْ الرِّجْلَانِ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْمَغْسُولَاتِ بِاسْمِ الْمَسْحِ لِيَقْتَصِدَ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتَا مَظِنَّةَ الْإِسْرَافِ.

(وَالثَّانِي) أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: بِكَعْبَيْهِ الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ مَعَ كَعْبَيْهِ وَالْمَشْهُورُ دُخُولُهُمَا فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ، وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ لَا يَجِبُ إدْخَالُهُمَا وَقِيلَ: يَدْخُلَانِ احْتِيَاطًا قَالَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْخِلَافُ فِي دُخُولِهِمَا فِي الْغَسْلِ كَالْخِلَافِ فِي دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَفَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ بِدُخُولِ الْكَعْبَيْنِ بِخِلَافِ الْمِرْفَقَيْنِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الرِّجْلِ لَا يَتَنَاوَلُ السَّاقَ فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَدْخُلَا فَلَا بُدَّ لِذِكْرِهِمَا مِنْ فَائِدَةٍ ثُمَّ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ اللَّخْمِيُّ الْكَعْبَانِ كَالْمِرْفَقَيْنِ. عِيَاضٌ قَدْ يُفَرِّقُ بِأَنَّ الْقَطْعَ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ بِخِلَافِ الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الْكَعْبَيْنِ بِقَوْلِهِ: النَّاتِئَيْنِ بِمِفْصَلَيْ السَّاقَيْنِ، وَالنَّاتِئُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ نَتَأَ يَنْتَأُ نُتُوءًا وَهُوَ بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ إبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً لِوُقُوعِهَا بَعْدَ الْكَسْرَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ الْكَعْبَيْنِ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقِيلَ: هُمَا الْكَائِنَانِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعِيَاضٌ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ مَالِكًا أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: زَادَ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: وَقِيلَ: هُمَا مُجْتَمَعُ الْعُرُوقِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَذَكَرَ ابْنُ نَاجِي هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عِيَاضٍ عَنْ ظَاهِرِ كِتَابِ الْوَقَارِ وَنَصُّهُ: وَقِيلَ: هُمَا الْمِفْصَلَانِ اللَّذَانِ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ، وَعَزَاهُ عِيَاضٌ لِظَاهِرِ كِتَابِ الْوَقَارِ

(قُلْتُ) وَقِيلَ: إنَّهُمَا مُؤَخَّرَا الرِّجْلِ حَكَاهُ فِي الطِّرَازِ قَالَ: وَيُنْسَبُ لِمَالِكٍ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الْكَعْبَ مَا نَتَأَ وَظَهَرَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّكَعُّبِ وَهُوَ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ كَاعِبٌ إذَا ارْتَفَعَ ثَدْيُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ارْتِفَاعَ اللَّذَيْنِ فِي طَرَفِ السَّاقِ أَظْهَرُ وَلِأَنَّ الْأَرْجُلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: ٦] اسْمُ جِنْسٍ أُضِيفَ وَاسْمُ الْجِنْسِ إذَا أُضِيفَ عَمَّ وَالْعَامُّ يَقَعُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَيَكُونُ كُلُّ رِجْلٍ مَعْنَاهُ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ هَذَا الِاسْتِدْلَال فِي مَجْلِسِ الرَّبَعِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>