قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ الْأُولَى: هَلْ الرِّجْلَانِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَيَغْسِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا أَوْ فَرْضُهُمَا الْإِنْقَاءُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدٍ؟ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: الْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ يَعْنِي التَّثْلِيثَ عَامًّا وَهُوَ الَّذِي فِي الرِّسَالَةِ وَالْجَلَّابِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ الْأَشْيَاخِ أَنَّ فَرْضَهُمَا الْإِنْقَاءُ. قَالَ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ فِي آخِرِهِ «وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا» وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْوَسَخَ يَعْلَقُ بِهِمَا كَثِيرًا وَالْمَطْلُوبُ فِيهِمَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْقَاءِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: زَعَمَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي تَكْرِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ قَالَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ غَسْلِهِمَا الْإِنْقَاءُ؛ لِأَنَّهُمَا مَحَلُّ الْأَقْذَارِ غَالِبًا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ كَلَامِ ابْنِ رَاشِدٍ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَ سَنَدٌ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرِّجْلَيْنِ نَفْيُ التَّحْدِيدِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) ظَاهِرُ كَلَامِ الرِّسَالَةِ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ الثَّلَاثِ عَلَى غَرْفَةٍ بَلْ يَعُمُّهُمَا أَوَّلًا بِالْغَسْلِ ثُمَّ يُكَرِّرُ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي بَابِ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ: رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَانَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَكَانَ يُبَالِغُ فِيهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَحَلُّ الْأَوْسَاخِ غَالِبًا لِاعْتِيَادِهِمْ الْمَشْيَ حُفَاةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَلْ تُكْرَهُ الْغَسْلَةُ الرَّابِعَةُ أَوْ تُمْنَعُ؟ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فَاَلَّذِي نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ صَاحِب الْمُقَدِّمَاتِ وَابْنِ الْحَاجِبِ الْكَرَاهَةُ، وَنَقَلَ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَاللَّخْمِيِّ وَالْمَازِرِيِّ أَنَّهَا تُمْنَعُ. قَالَ: وَنَقَلَ سَنَدٌ اتِّفَاقَ الْمَذْهَبِ عَلَى الْمَنْعِ انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ بِالتَّرَدُّدِ لَكَانَ أَجْرَى عَلَى طَرِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ الْمَذْكُورِينَ نَقَلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَلَمْ يَحْكِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَشَهَرَ مِنْهُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ.
(الثَّانِي) الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُمْ الْمَنْعَ لَمْ يُصَرِّحُوا بِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِهِ الْحُرْمَةُ وَفَهِمَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَنْعَ مُقَابِلًا لِلْكَرَاهَةِ، وَفِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى مَنْ شَكَّ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ فِي تَوْجِيهِ الْكَرَاهَةِ: مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ، وَأَيْضًا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ «فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ مَا نَصُّهُ، وَرُبَّمَا فُهِمَ مِنْ أَبْحَاثِهِمْ التَّحْرِيمُ قَالَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: فَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ حَمَلَ الْكَرَاهَةَ عَلَى بَابِهَا وَالْأَقْرَبُ رَدُّهَا لِقَوْلِ ابْنِ بَشِيرٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، إنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالثَّلَاثِ الْمُسْتَوْعِبَةُ الْعُضْوِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَسْتَوْعِبْ الْعُضْوَ إلَّا بِغَرْفَتَيْنِ فَهُوَ غَرْفَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا ذَكَرَهُ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ أَوْ السُّنَّةَ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ وَرَاءِ الْفَرْضِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ بِالتَّحْرِيمِ فَقَالَ: وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ الرَّابِعَةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَعِبَارَةُ ابْنِ بَشِيرٍ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ وَجْهٍ لَكِنَّهَا قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْكَرَاهَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: فَمَنْ عَمَّ الْعُضْوَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ أَتَى بِالْفَرْضِ وَوَقَعَ لِمَالِكٍ كَرَاهَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ خِيفَةَ أَنْ لَا يَعُمَّ بِهَا أَوْ خِيفَةَ أَنْ لَا يَرَاهُ مَنْ لَا يُحْسِنُ فَيَقْتَدِي بِهِ فَلَا يَعُمُّ بِوَاحِدَةٍ.
(الثَّالِثَةُ) أَنَّ الْمُقْتَصِرَ عَلَى الْوَاحِدَةِ تَارِكٌ لِلْفَضْلِ وَتَارِكُ الْفَضْلِ مُقَصِّرٌ وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدَةِ بِإِجْمَاعٍ، كَمَا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ إذَا عَمَّ بِهَا بِإِجْمَاعٍ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: لَا يَجُوزُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ لَكِنَّ تَشْبِيهَ ذَلِكَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ بِحُرْمَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا بَلْ الْكَلَامُ فِي كَرَاهَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الشَّبِيبِيِّ أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute