للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال القرطبي -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أهل المعاني: جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء" ثم استشهد ببيت معبرٍ لعبد الله بن المبارك:

"وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها" (١)

وفي هذا البيت تنبيه لطيف لمثل هذه السلطات الباطلة: سلطة السياسة الفاسدة التي عرفتها أوروبا في عصورها الوسطى، وسلطة الكنيسة مع الأحبار والرهبان، فأفسدوا دين الناس ودنياهم. وللقرطبي -رحمه الله- وقفة مهمة مع قوله -تعالى-: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)} [البقرة: ٧٨ - ٧٩]: "قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: نعت الله تعالى أحبارهم بأنه يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، الآية.

وذلك أنه لما درس الأمر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصًا وطمعًا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها" (٢)، وهو إشارة واضحة إلى البحث عن الرياسة والشهرة والسلطة بما كذَبوا به على الله من أخبار أو شرائع، فبهذه السلطة الفاسدة يتحكمون في الأتباع بالباطل وبالظلم، ويظهر بذلك الفساد في دنيا الناس ودينهم مما يوجب على العقلاء نبذها والبحث عن الحق.

أما الوقفة الثانية فهي عن الصلة بين العلمانية والعلمية، وقد آن الأوان لرفع هذا التلاعب الدلالي بالمصطلحات الحادثة، وكشفها بكل أبعادها، ومن ذلك الخلط المتعمد بين العلم والعلمانية، فالعلمية قبل أن تكون مطلبًا علمانيًا إن صح ذلك فهي مطلب إسلامي، فالإِسلام يطلب من أهله أن يقيموا دينهم ودنياهم


(١) تفسير القرطبي ٨/ ١٢٠.
(٢) المرجع السابق ٢/ ٦ - ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>