للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما بقي إلا تصحيح المسار بالعودة للدين، وربط كل شئوننا به.

ومع أن الفطرة السليمة ضد هذه القسمة وكذا العقل الصحيح، ومع أنها ترتبط بواقع تاريخي أساءت فيه الكنيسة باسم الدين أيما إساءة، ثم بواقع متطرف معارض لها تمثل في الملحدين وأمثالهم النابذين للدين كونه دينًا فقط، مع كل هذه الحقائق الجلية التي تجعل من الدفاع عن العلمنة أمرًا سخيفًا بمنطق العقلاء، فإن أصرّ هؤلاء على الاستشهاد بواقع الحركة العلمية في أوروبا العلمانية، فنضيف هنا تحليلًا للمسألة حتى نكشف أبعادًا أخرى يتجاهلها العلمانيون: تحتاج الظواهر المعقدة إلى تحليل دقيق، ومن ذلك هذا التصاحب بين الثورة العلمية والنجاح العلماني، وهنا تقدم سؤالًا نقديًا مهمًا: هل يعني هذا التصاحب وجود سببية؟؛ أي: أن العلمانية كانت سببًا في تقدم العلم كما هو قول أكثر المتغربين أو أن التقدم العلمي يؤدي للعلمانية كما هو قول طائفة أخرى، وهل يعني وجود ظاهرتين في عصر واحد وجود السببية أم أنه قد توجد ظواهر متجاورة وتكون العلاقة بينها غامضة وتفتح الباب للاستثمار من قبل القوى الاجتماعية الفاعلة بما يتوافق مع هواها؟

لم يتيسر لي رؤية دراسة عربية تبحث هذه القضية وتجيب عن هذه التساؤلات المهمة، ولاسيّما أن هناك شواهد وظواهر تُضعف من مسألة السببية الإيجابية بين العلمانية والعلم، ومن ذلك أن بداية الثورة العلمية جاءت مع متدينين، بل بعضهم من رجال الكنيسة، فالانحراف جاء من الكنيسة ولا علاقة له بالدين، كما أن العلمنة ارتبطت بأشخاص لهم موقف سلبي من الدين مما يفتح الباب للسؤال عن علاقة الحقيقة بالهوى عند هؤلاء، فإن صاحب الهوى يختلط عنده الأمر ويلتبس عليه، فتظهر دعاوى غير صحيحة، ولاسيّما إذا تعلق الأمر بأفكار وأيدلوجيات وحركات اجتماعية مثل العلمنة وغيرها. يبقى الانتباه لمسألة: وهي أن العلمنة إنْ اهتمت بالعلمية، فهو العلم الذي ينفع في جانب ويقصر عليه، وهو العلم الدنيوي، فإذا كانت العلمانية هي الدنيوية فعلمها يرتبط بالدنيا, ولا شك أن أمةً تتفرغ لهذا الباب ستبرع فيه كما برعت أمم وثنية في حضارات تاريخية سالفة وأتت بعلوم وصناعات خلدتها في التاريخ, مثل الفراعنة والإغريق وغيرهم، ولكنه قَصُر عن مجالات مهمة في حياة البشر، وهذه هي الحضارة الغربية التي بلغت في العلوم الدنيوية مبلغًا لا مثيل له، ومع ذلك فهي

<<  <  ج: ص:  >  >>