ولابد بعدئذٍ من تصحيح مسار النهضة والتحديث والإصلاح؛ لأن هناك من يجرّه نحو التغريب والعلمنة، بينما مشروع الأمة لتصحيح المسار هو مشروع إسلامي، وإذا كان كذلك فيجب أن يندرج كل نشاط ضمن هذا المشروع في الإطار الإِسلامي، ومن ذلك طلب العلوم العصرية، وهذا ما ترفضه تيارات التغريب المُخترقة بأمراض العلمنة، ولذا انبرى منهم مجموعة لمحاربة دعوى التأصيل الإِسلامي لعناصر التحديث المختلفة المقتبسة من الحضارة الغربية، ومنها العلم، بحجة أن فكرتها -في الغالب- تقتضي أن العلم لا دين له.
أحسنهم حالًا من يرى أن الدين يبقى في مجاله الغيبي الوجداني الشخصي بينما العلم بمجاله الحسي العقلي الموضوعي، ويسيران في تجاور دون أن يتدخل أحدهما في مجال الآخر، بحيث يخرج الدين من مجال العلوم تمامًا وتسير بنهجها لوحدها ويبقى الدين في مجاله الغيبي، وربما يستندون تراثيًا بموقف ابن رشد الذي يقول بوجود حقيقتين: إحداهما للخاصة وأخرى للعامة، ولا يصلح أن تدخل إحداهما على الأخرى، ويكون طريق التعامل مع النص بالتأويل (١)، ولا يُدرَى عن حقيقة مقولة المعاصرين، هل هي من التكتيك أم هي قناعة؟؛ لأن مرجعها القلب ولا أحد يطلع على ذلك، ولكن مع افتراض التسليم بصدق قناعتهم بالدين، فإن تصورهم عنه تصور خطير يناقض الدين تمامًا، ويهمنا هنا ما له صلة برفض التبيئة الإِسلامية للمقتبس الغربي، حيث جعلوا من فكرة المجالين أداة لرفض الأسلمة، بحجة ترك مجال العلم لوحده، والحقيقة أن هذه الدعوى هي جوهر العلمانية؛ لأن العلم الذي فرض استقلاله بمجاله لم يترك الدين، بل هو مع ذلك قد تطفل على مجال الدين ذاته بتوزيع تصورات جديدة أو بعرض تأويلات وتفسيرات أو بتحليل أو نقد، بينما يمنع الدين في المقابل من ذلك. إن هذا الفصل بين المجالين رغم انحرافه من جهة التصور للدين، فهو تصور صوري لا حقيقة له؛ لأنه فتح المجال للعلم المعلمن على حساب الدين، وساق الناس في البيئات العلمانية لإقصاء الدين وإهماله ونسيانه ثم الكفر به والتنكر له.
(١) حظي ابن رشد بعناية كبيرة من قبل المتحمسين للحضارة الغربية، ومن أولئك عاطف العراقي في مصر والجابري من المغرب، وانظر: ابن رشد اليوم، الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط, ولاسيّما ص ٣٥ وما بعدها.