للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بين طريقين مختلفين في الإدراك والوعي والتفكير والعمل والخلق والمعرفة" (١).

ويعترض أركون على المفهوم القديم للعلمنة القائم على استبعاد الدين وإهماله مع دفاعه عن نجاحه في الفصل بين "الكنيسة والدولة" وذلك أن هذا العمل لم ينجح، والدليل مثلًا في البلاد الإِسلامية التي طبقت المفهوم بشكل جذري "تركيا وتونس" ومع ذلك تظهر فيها "حركات سياسية دينية" ناجحة، ولذا فهو يدعو إلى إعادة النظر في العلمانية من جديد "عن طريق إعادة التفكير بمسألة العامل الديني والعامل الدنيوي بصفتهما بُعدين لا يتجزّآن من أبعاد الإنسان" (٢)، ويدعو إلى الاهتمام بالدين بالصورة المذكورة سلفًا: "التعليم الديني الذي ندعو إليه ليس هو ذلك التعليم العقائدي أو الشعائري السائد في المعاهد والأوساط التقليدية. وإنما هو بكل بساطة تعليم علماني لتاريخ الأديان؛ أي: تعليم حديث يتقيد بالوقائع التاريخية وبأحدث المناهج التاريخية"، وهذا التعليم لا يوقظ المذهبية والطائفية وإنما ينمي الحس النقدي وإدراك نسبية العقائد الدينية ويمكنهم الخروج من مذاهبهم الضيقة، ويكتشف الطالب مدى تشابه الشرط البشري على الرغم من التجليات المختلفة للأديان والتقديس، ولا يعود التلميذ يعتقد أنه هو وطائفته في الجنة فقط، ومع ذلك فهي مرحلة تالية تعقب العلمانية القديمة (٣).

إذا كان الموقف الأيدلوجي لأركون واضحًا من جهة التصور والحياة والمصير وهو ما لا يُبحث هنا إلا أنه في موقفه من العلمانية نجده متوترًا متذبذبًا، صحيح أنه يخاطب الغرب بخطاب والمسلمين بخطاب، ولكن الأمر فوق ذلك، إنه فعلًا يكشف عن أزمة عند المفكرين الغربيين، فالعلمانية الضخمة التي عرفها الغرب لم توصلهم إلى حلّ جذري أمام مشكلات وجودية إنسانية، ولهذا نجد هذا النكد ونجد هذه الظواهر -التي يعترف بها أركون ويكرر ذكرها- في الغرب من بروز روحانيات شاذة وعجيبة وذهاب بعضهم إلى الديانات الوثنية في الشرق، ليست المسألة هنا أن الغرب قد شبع من العلمانية ويبحث عن موضة بقدر ما هي أزمة يعبر عنها القرآن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}


(١) الفكر الإِسلامي قراءة علمية، محمَّد أركون ص ١٨١، ترجمة هاشم صالح.
(٢) الفكر الإِسلامي نقد واجتهاد، محمَّد أركون ص ٢٧٨، ترجمة هاشم صالح.
(٣) انظر: الإِسلام، أوروبا، الغرب. . . . ص ٢٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>