ولكن الوضع هنا يختلف؛ لأنه لا يوجد شيء في الدين إلا تركوه وذهبوا إلى الغرب يستقون منه كل تصوراتهم الجديدة مكانه، ورغم فساد القانون عند المتقدمين، إلا أنهم أحسن حالًا من المعاصرين، فالمسائل عند المتقدمين محدودة على الأقل في أبواب، أما مع المتأخرين ولاسيّما في الصور الثلاث:"الإطار - المنهج - النشاط" فما يبقى شيء في الدين إلا يُنتهك؛ لهذا جاء الموقف التغريبي في الدعوة إلى علمنة الحياة، يريدون إدارة الحياة بما أخذوه من الغرب، ويبقى الدين للشأن الشخصي الفردي، الفرد هو وما يريد، أما الحياة بما فيها جانب العلوم فتترك لتقليد الغرب، قطعًا يصعب على بعضهم القول بتقليد الغرب، سيقولون مكانها عبارات جميلة مثل:"الإبداع والنشاط العقلي والعلمي"، ثم لا تجدهم إلا على موائد المذاهب الغربية، لا أحد فيهم يريد الإبداع والتفكير والاختراع والعقل والعلم في ضوء الإسلام وهديه وإنما في هدي مذاهب فكرية علمانية، وضعية أو مادية أو غيرها من المذاهب الغربية. يحصرون الحل في رفع التعارض بإبعاد الإسلام عن الحياة وجعله شأنًا شخصيًا ويستبدلون به ما يستطيعون نقله من الفكر الغربي، وفي ذلك انحطاط فكري لا مثيل له في تاريخنا الإسلامي، فإن الانحرافات القديمة كانت تحرص على إبقاء الإسلام رغم ما تُحدثه من تشويهات له بواسطة مبضع التأويل، ولكنهم لم يصلوا إلى درجة إقصائه بعيدًا عن حياتنا بمثل ما حصل في هذا الغلو التغريبي.
أول مواجهة لهذه الدعوى بصورتها التغريبية كانت من قبل الاتجاه الإسلامي التوفيقي، ولاسيّما مع أبرز رموزه الشيخ "جمال الدين الأفغاني" والشيخ "محمَّد عبده"، حيث استند الأفغاني إلى الطريقة الفلسفية في التوفيق بينما استند محمَّد عبده إلى الطريقة الكلامية، وهناك مجموعة تأثروا به، فكانوا أقرب إلى التوازن من شيخيهما في أبواب من أمثال الشيخ "حسين الجسر" في الشام أو "محمَّد رشيد رضا" السوري في مصر أو الشيخ "ابن عاشور" في تونس أو "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" أو الشيخ "الحجوي" في المغرب (١)،
(١) هناك دراسات حديثة تذكر في الجملة تأثر علماء المغرب بالدعوة السلفية رغم عدم تركهم للمذهب الأشعري، انظر مثلًا: الخطاب الإصلاحي في المغرب. . . .، عبد الإله بلقزيز ص ٥٠ وما بعدها، وانظر: العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي .. ، حسن الحجوي ص ١٦٠ وما بعدها. =