للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعد فكرة الابتكار السابقة صورة جيدة رغم بعض المشاكل التي تخترقها، وهي فكرة يجتهد أصحاب التأصيل الإسلامي في إبداعها، ولكن من منظور مختلف، وأبرز المشاكل التي تُفسد هذا التصور أن الأصل العام لمفكر الوضعية العربية ما زال قائمًا -أي: القسمة الثنائية إلى: "عقل ووجدان"-، بينما مثل هذا الابتكار يتوجه إلى الحقائق الموضوعية الخارجية، كما أن هذا الرأي يُخفي خلفه الهمّ الفكري الذي يقوم على التوسع في أخذ الحضارة الغربية كونها النموذج الأرقى، ولا يبقى من هويتنا إلا القالب اللغوي فقط، يقول في أحد كتب المرحلة الأخيرة من حياته: "نريد لأبناء عصرنا أن يستخلصوه من تراثهم -شكلًا لا مضمونًا- وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضًا، بل أن يجعلوا بينهما تعاونًا على الوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك؛ وإذا كان الأولون قد جعلوا التعارض مقصورًا على النص القرآني والأحاديث، هل يعملون فيها العقل بالتأويل، أو يقبلونها بظاهر لفظها، فنحن اليوم نجعل التعارض أو التعاون بينهما في ضدين آخرين، هما: الدين من ناحية، والعلم من ناحية أخرى؛ فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا، فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معًا، فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم العقلية، ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه، وبهذا نجعل الدين موكولًا إلى الإيمان، ونجعل العلم موكولًا إلى العقل، دون أن نحاول امتداد أي من الطرفين ليتدخل في شؤون الآخر" (١)، ويقول في الكتاب نفسه: "وأحسب أني لو سألت الآن: كيف ننتقل من فكر قديم إلى فكر جديد؟ كان الطريق إلى الجواب واضحًا، وهو أن أستخدم الألفاظ -التي هي في الحقيقة دالة على رؤوس الموضوعات- استخدامًا يساير العصر في مفهوماته ومضموناته حتى ولو كانت هي نفسها الألفاظ التي استخدمها الأولون، لكنهم استخدموها بمفهومات ومضمونات مختلفة" (٢).

يصبح الابتكار هنا في الحقيقة صورة من صور التأويل المعروفة، والمصطلحات لا تغير الحقائق، فالابتكار هو في النهاية تأويل، فنأخذ من تراثنا


(١) تجديد الفكر العربي، د. زكي نجيب ص ١٣٦.
(٢) المرجع السابق ص ١٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>