للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يريد النظر فقط في الأسباب وإغفال النظر في مسبب الأسباب، وفي مدبر الكون والفعال لما يريد سبحانه، فأين التوفيق الذي يطرحه في مشروعه؟ بينما النظرة الصحيحة في حقيقة الموقف الديني وموقف أهل العلوم يظهر منها عدم وجود تعارض، فهي تثبت السبب وتحث على معرفته، ونسبة المُسبَبات إليه، مع إدراك عدم خلو سبب من مؤثر، وافتقاره دائمًا إلى سبب آخر، وأن كل ذلك لا يتعارض مع الإيمان بتقدير الله سبحانه لها.

ومن نظر في أغلب ما يعرضه أهل الفكر مما يزعمونه تعارضًا بين الدين والعلم يجده يدخل في مبحث السببية (١)، وذلك أن العلوم في الغالب إنما هي في النهاية البحث عن قانون أي عن سببية، فيُقصر أهل العلوم في الاكتفاء بما اكتشفوه من سبب، ويقصر بعض أهل الدين بنفي هذا السبب، فيُظن بأن هناك تعارضًا، أو يُظن أن أهل الدين عندما يربطون كل شيء بالله سبحانه أنهم ينكرون الأسباب، وكيف ينكرونها والرب سبحانه هم من أخبرنا بوجودها. فليكتف أهل العلوم في بحثهم بإدراك الأسباب الظاهرة ولكن لا ينكروا وجود مسبب الأسباب وخالقها ومدبرها، والغالب أنهم لا ينكرونها، وإنما يقع الإنكار من أهل المذاهب الفكرية، وهو أوضح مع تلك التي اتخذت موقفًا معاديًا من الدين، وهو أبرز ما يكون في الماديين والوضعيين بسبب إلحاد الكثير من زعمائهم، وقد سبق ذكر قول "نيوتن" أحد أهم علماء العصر الحديث في الفيزياء من "أن الكون لا يمكن أن يعمل دون وجود إله" (٢).

كانت الوقفة مع أحد أبرز النماذج الفكرية المعاصرة، توقفت معه؛ لأنه يرتبط بمذهب فكري له صلة كبيرة بالعلوم، وهو المذهب الوضعي، وقد اجتهد صاحب هذا المذهب في رفع شأن العلم وأحسن في ذلك، ولكنه وقع في الغلو عندما جعله الممثل الوحيد للحقيقة، وجعله الوحيد الذي يملك جواز الدخول إلى العقل بينما الدين مع الأدب والفن في ساحة الوجدان، ولم يفرق بين أن الدين يملك أخبارًا وحقائق موضوعية بينما الأدب والفن إنما هما تعبير عن المشاعر، وقد كشف البحث أثر ذلك في جعل الدين في مسار والعلم في مسار،


(١) انظر: الفصل الثاني من الباب الثاني، مبحث المعجزة ص ١٠٣١.
(٢) إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل .. ص ١٠١.

<<  <  ج: ص:  >  >>