يظهر في هذه الفقرة الأثر الإيجابي لأعمال جاليليو في تقدم العلم وتحقيق ثورة علمية حقيقية، وهذا النوع يتساوى الناس فيه، فقد يبرع فيه المؤمن والملحد، المصدق بالأديان والمكذب بها، بل قد يفتح الله للكفار إذا بذلوا أسباب ذلك كما قال -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧)} [الروم: ٧]، وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الدنيا "لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء"(١)، فعلوم الدنيا ميسرة لمن طلبها، ولذا فهي ليست لوحدها علامة صلاح صاحبها أو فساده، أو صلاح تلك الأمة التي ظهرت فيها أو فسادها. وإن كان المؤمن والأمة الصالحة إذا اشتغلوا بهذه العلوم طاعة لله سبحانه وقصْد نفع الناس بها، كان لهم من التوفيق ما لا يكون لغيرهم، وتحقق لهم الانتفاع الصالح بها ما لا يكون لغيرهم، فإذا عرفنا مثل هذه الحقيقة انتفى ما يردده بعض الجاهلين:"لِمَ تقدّمَ الكفار وهم كافرون بالله العظيم"؟!
بعد هذه الوقفة نرجع إلى ما أعطاه الله لهؤلاء القوم عندما اشتغلوا بالدنيا وعلومها، ومما يسره الله لجاليليو وأمثاله وساعدت في تقدم العلم: اكتشافه للأدوات التي كانت سببًا في تقدم العلم كالمقرب -التلسكوب- مثلًا، واكتشافه لبعض قوانين حركة الأجسام، وإشاؤه لعلم الميكانيكا، وتطويره لعلم الفيزياء، وما ترتب على ذلك فيما بعد من اختراعات وصناعات لم تعرفها أمة من الأمم.
وقد كانت إحدى أهم نقاط انطلاقه دعوته الملحّة إلى تجاوز منهج أرسطو، فهو وإن كان نافعًا في بعض الأبواب إلا أنه لا يقدم نفعًا في كشف الجديد، ودعوته لاستخدام المنهج التجريبي المقنن رياضيًا. وهذا يذكرنا بنقد آخر لمنهج أرسطو المتبع في العلم في جهة أخرى وقبل جاليليو بسنين كثيرة، وهو نقد علماء المسلمين، وقد كان من أهم ما أخذوه على منهج أرسطو: بأنه لم يظهر نفعه لأهل علم من العلوم أو صنعة من الصنائع، بل كان تطور علومهم وصنائعهم دون اعتمادهم عليه، ومنهم الكثير لا يعرفونه. وبعد سنين من ذلك
(١) من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - رواه الترمذي برقم (٢٣٢٠)، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله -عز وجل-، وابن ماجه برقم (٤١١١)، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (٦٨٦).