للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العام الذي أقامه صاحب نظرية الجاذبية" (١). وهذه الشهرة جعلت "راسل" يقول: "لقد كان النصر كاملًا -أي: لنيوتن- إلى حد ينذر بالخطر من أن يغدو "نيوتن" أرسطو آخر، ويفرض على التقدم حاجزًا لا يمكن تخطيه" (٢).

ونجد مفارقة عجيبة في هذه العلاقة بين نظريات نيوتن واكتشافاته ومنهجه وبين الفكر المتفاعل معها، تتمثل في أن نيوتن يميل إلى أن النظر في هذا الكون يدل على وجود الله سبحانه ويحاول التوفيق بين نظريته في الجاذبية وبين ما يعرفونه من أمور الدين، بخلاف التيارات الفكرية المستثمرة لنجاحه فهي توظف نظرياته في خدمة العلمانية المادية والإلحاد. فهو يرى بأن نظريته تُظهر نظام العالم وتناسقه، وأن ما فيه من نظام وجمال وترتيب يدل على وجود الله سبحانه (٣)، وما يترتب على الإقرار بوجوده من أمور أخرى، ونراه مثلًا يحاول التوفيق بين نظريته في الجاذبية وبين قصة طوفان نوح عليه الصلاة والسلام، فهو يرى بأن الله سبحانه حينما أراد أن يغرق القوم الكافرين الذين كذبوا نوحًا عليه الصلاة والسلام، أمر نجمًا جبارًا بأن يقترب من الأرض، وبحسب نظرية الجاذبية اختلت قوى الطرد والجذب، فاندفع الماء من باطن الأرض تحت تأثير الجاذبية الرهيبة، وصارت أمواج البحر كالجبال، وتراكمت السحب نتيجة التبخر، وتساقطت أمطار وكأنها السيل المنهمر، ولما تحقق أمر الله سبحانه، أمر النجم أن يعود إلى مكانه، فعادت الأرض إلى ما كانت عليه (٤). فهو يحاول المحافظة على سلامة نظريته وفي الوقت نفسه لا يريد إنكار ما يعرفونه من الأمور الدينية. فمن الناحية العلمية فسر كيف تحدث ثلاثة أمور في عذاب أولئك الكافرين، وهي: تفجر الأرض بالماء بشكل لا مثيل له، وسحاب كثيف مع مطر غزير لا مثيل له، وموج هائل متلاطم، وهذه الثلاثة يمكن تصور حدوثها باقتراب نجم كبير من الأرض، ولكنه بقدر ما يُقرّب المسألة للمائلين إلى العلوم الحديثة،


(١) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري ص ٢٦٩.
(٢) انظر: تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) الفلسفة الحديثة، راسل، ترجمة محمد الشنيطي ص ٧١، وانظر: العلم في التاريخ، برنال ٢/ ١٣٥.
(٣) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص ١٥٥، وتاريخ العلم العام، ترجمة د. علي مقلد ٢/ ٣٠٢.
(٤) انظر: تراث الإنسانية ٩/ ٦٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>